الجمعة ١٠ يونيو ٢٠١٦ -
٠٣:
٠٩ م +03:00 EEST
د. أحمد الخميسي
كنت قد كتبت مقالا بعنوان" العلم والأدب تفاعل مثمر"، وفي بعض الحالات أتلقى تعليقات سريعة على ما أكتب، معظمها ينطوي على تقدير أو إعجاب، لكن القليل منها يغني المقال الأصلي بوجهة نظر أو رؤية ، أومعلومات جديدة. من ذلك الرسالة التي جاءتني من الأستاذ الجامعي عالم الميكانيكا د. صفاء صادق، ورسالة الأديبة د. أسماء شهاب الدين. يشير د. صفاء إلي علاقة الأدب بالعلم من خلال نموذجين: الأول هو الكاتب الروسي أنطون تشيخوف، وكان طبيبا، والذي يستعرض في قصته"حكاية مملة"العداء للعلم حين يقول أحدهم:"الصينيون لم يعرفوا العلم، فماذا خسروه؟". فيرد عليه أستاذ آخر:" العلم أهم وأروع شيء في حياة الإنسان"، ويؤكد تشيخوف إيمانه بالعلم على لسان الأستاذ الجامعي الذي يروى القصة حين تقول:" لا يشغلني الآن، قبيل الموت، إلا العلم وحده، فسوف أظل مؤمنا ً بأن العلم ألزم شىء في حياة الإنسان، وبه وحده سينتصر الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه ". وفي رواية تشيخوف القصيرة المسماة " المبارزة" يرصد شخصية الطاغية المستبد في مجال العلوم! نرى ملامحه في مجال العلم كما نراها في الدولة والحروب، إنه لا يرحم الضعفاء ولا الفاسدين خوفا من أن يتكاثروا ويقضوا على الحضارة! وهو كما يصفه تشيخوف: " يتدخل في شئون الآخرين ويجبر الجميع على الخضوع له والجميع يخشاه، والناس بالنسبة له كلاب وأشياء تافهة".
أما النموذج الثاني في علاقة الأدباء بالعلم فيتجلى في أدب نجيب محفوظ وخاصة ما جاء في روايته " أولاد حارتنا" التي نشرها عام 1959، وأثارت ومازالت جدلا واسعا. وتتضمن الرواية نظرة نجيب محفوظ الواضحة إلي العلم بصفته قادرا على تحويل حياة البشر وتلبية احتياجاتهم، وإذا كانت شخصية " عرفة " في الرواية هي حاملة لواء العلم والثقافة الحديثة فإن عرفة يؤكد أن العلم: " قادر على كل شيء.. وقد يتمكن يوما من القضاء على الفتوات أنفسهم، وتشييد المباني، وتوفير الرزق لأولاد حارتنا كافة". لكن عرفة رمز العلم يتحسر على وضع العلماء قائلا بمرارة: " كل ما عندي فيه فوائد للناس، لكني لم ألق في حياتي إلا الإساءة"! ولا تخلو أولاد حارتنا من مخاوف نجيب محفوظ من خضوع العلماء للسلطة وتحويل العلم إلي سلطة قمعية . وبهذا الصدد تشير بدورها الأديبة الطبيبة د. أسماء شهاب الدين إلي أن تقديس العلم بشكل مجرد ومطلق قد يقودنا إلي أخطاء بل وإلي خطايا كبيرة، إذ يشهد التاريخ أن العلوم طالما استخدمت كأدوات للسلطة ، وأن السلطات الديكتاتورية طالما سخرت العلوم لأغراضها وخاصة في مجال الطب، وليس أدل على ذلك من النازية التي تبنت رؤية علمية مجردة من أي انحياز إنساني قادتها إلي اجراء التجارب العلمية المحرمة على أسرى الحرب. وهناك أشكال وتجارب كثيرة على حد قول د. أسماء شهاب الدين لتذليل العلم وتسخيره لأغراض السياسة، لذلك فإنه من الأهمية بمكان حينما نعلن عن العلاقة الوثيقة بين العلم والأدب أن نشير إلي المرتكزات والأهداف الانسانية لتلك العلاقة بحيث تتوخى في المجالين خير الإنسان وسعادته. وكنت قد أشرت في مقالي السابق إلي جانب آخر يتعلق تحديدا بتأثير تطور العلم في مسيرة الأدب، وجاء فيه أن عالما وفنانا عظيما هو ليونارد دافنشي أن دور العلم هو الوصول إلي القوانين الكلية للأشياء ، أما الأدب فسيظل مهتما بالخصائص الكيفية للأشياء. وهو تقسيم صحيح، لكنه لا يعني أن العلم والأدب جزيرتان منفصلتان، لا تتبادلان التأثير.
بل إن علاقة التفاعل بين المجالين أقوى بكثير مما تبدو لنا. على سبيل المثال فقد كانت" قنديل أم هاشم" ليحيي حقي تعبيرا بشكل ما عن درجة التخلف العلمي في الطب، إلا أن انتشار طب العيون أدى إلي انتفاء أية إمكانية فعلية لظهور بطل من نوع" الدكتور إسماعيل" ورواية مثل قنديل أم هاشم. وفي القرنين 18و 19، شكلت الروايات المكتوبة في شكل رسائل متبادلة علامة في الأدب الأوروبي، لكن اكتشاف التلفون دفع إلي الخلف بأهمية الرسائل، وهكذا كتبت الروائية المعروفة جين أوستن روايتها الشهيرة"العقل والهوى" بداية في شكل رسائل ثم غضت النظر عن ذلك وكتبتها بطريقة أخرى. وهناك مثال آخر ساطع على التفاعل المثمر بين العلم والأدب، فقد عرف تاريخ الأدب عشرات أو مئات الروايات التي قامت عقدتها على مأساة البطلة التي فرطت في أعز مالديها، كما هي الحال مع " هنادي" في دعاء الكروان لطه حسين، وفي" مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير، لكن اكتشافا علميا بسيطا مثل حبوب منع الحمل أدى إلي منع تلك المآسي داخل الأدب. وقد حفل الأدب الرومانسي بعشرات الأبطال الذين يعانون من مرض السل، ويحبون، ويرحلون في نبل، مثل " مرجريت" التي تموت بداء السل في " غادة الكاميليا"، إلا أن اكتشاف البكتيريا المسببة للمرض في 1882 ثم الدواء قضى على ذلك النوع من الشخصيات وأخرجها من دائرة الإبداع. وأدى اكتشاف التلفون وحده إلي تنحية كل العقد الأدبية التي قامت على ضياع الخطاب المرسل من العاشق إلي حبيبته وما ينجم عن ذلك من مصائر مأساوية!
وقد أقام محمد المويلحي عمله البديع " مقامات عيسى بن هشام" 1907 على أساس نزهة يقوم بها عيسى والباشا في مصر للتعرف إلي أحوالها، لكن اكتشاف التلفزيون جعل من المستحيل ظهور شخصية كتلك بعد أن أصبح بوسع أى إنسان أن يتعرف إلي أي مكان في العالم وهو جالس في بيته ! وقضى العلم برسم خريطة جغرافية واضحة لمعالم الأرض والبحار على كل روايات السفن المغامرة المبحرة لاستكشاف عالم مجهول. ودفن ظهور الهاتف المحمول شخصية " روبنسون كروزو" إلي الأبد ، فلم يعد من المحتم الآن على رجل سقط على جزيرة أن يعيد بناء العالم بمفرده، بعد أن أصبح من الأسهل بكثير أن يجري اتصالا بالمحمول بأية نقطة في العالم. ومن غير المعروف بعد الأثر البالغ الذي سيتركه ظهور" الهندسة الوراثية" عندما يصبح من الممكن مستقبلا وضع بطاقة شخصية لكل فرد بالعوامل الوراثية الخاصة به وما يمكن تفاديه منها وما يمكن تعديله! المؤكد في كل الحالات أن التفاعل بين المجالين يسفر عن بلورة الحقيقة بدقة أكبر.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع