نانا جاورجيوس
فكر الحداثة والتحديات التي تواجه المنطقة العربية والتي تمت مناقشتها في ملتقى القاهرة الدولي الأول لتجديد الخطاب الثقافي، لم يخرج وكما قال وزير الثقافة الأسبق جابر العصفور و الذي شدد على أن لكي نجدد الخطاب الثقافي علينا بتجديد الخطاب الديني أولاً ممثلاً في أربعة تحديات هم: »الاستبداد وغياب الحرية، والفقر ولا يخفي أن ٤٠ في المئة من سكان مصر مثلاً يعيشون تحت خط الفقر، والتعليم والخطاب الديني الذي يعتبر كارثة في حد ذاته، ومن ثم ينبغي أن يأتي العمل على تغييره في المرتبة الأولى». وانتقد الخطاب الثقافي العربي السائد، شكلاً ومضموناً؛ قائلاً إنه يسير إلى الأمام وعيناه في قفاه. بينما الوزير حلمي النمنم رأى أن: «الخطاب الديني جزء من الخطاب الثقافي، وواجب المثقفين هو العمل على الخروج من أزمة شيوع ثقافة الموت، لترسيخ قيم الديموقراطية، بعدما ثبت فشل ذلك في العراق مثلاً».

لماذا هذا التخوف الشديد الذي أدركه الآن مثقفي ومفكرين الوطن العربي؟ لماذا لتفعيل الحداثة الثقافية علينا بتجديد الخطاب الديني أولاً؟ ربما لأن الإسلام السياسي تحديداً يشكل في ذاكرة أغلب شعوب المنطقة «كدين ودولة». ويرى الحكام العرب أن بناء الدولة المستقبلية وفق فكر الماضي لا فكر الحداثة الحاضرة والمتمثلة في العلمانية التي ليس فيها مسلمات ولا مطلقات مقدسة وترفض أن تعيش في جلباب ماضوي بل تساير الحاضر بكل تجلياته وديناميكيته. العلمانية لا تجتر الماضي ولا تحتاج لإعادة إنتاجه وتكريسه لأن الحداثة تساير روح العصر وكل جديد، بينما الدين السياسي فهو يشد الحاضر و المستقبل بإستمرار إلى الماضي.

الحداثة لا تنكر الأديان، بينما رجال الدين ينكرون سياسات الدول بقوانينها المدنية وتوجهاتها التي من المفترض أن يتساوى فيها مواطنيها. فلا تفرق الحداثة بين أفراد الشعب بل الجميع “مواطنين” لا أصحاب قبائليات ولا ديانات ولا طوائف ولا مذاهبيات. كما أنها الحداثة التي تقوم على إعمال العقل لا النقل، و لا تكفِّر كل من يختلف معها في الرأي أو العقيدة أو المذهب أو الدين. قديما قال إبن رشد:” العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح” و “إذا خالف النص العقل وجب تأويل النص”. لهذا تم تكفيره وحرق كتبه ومحاربة فلسفته، لأنه نادى بإعمال العقل، وهو ما نحتاجه اليوم لإعادة تجديد الخطاب الديني للنهوض بالثقافة بدءاً من القعدة الشعبية العريضة، ومن رجل الشارع البسيط.

التنظيمات الإسلامية بكافة إنتماءاتها وأهدافها سواء الحركات الدعوية منها أو التي تتستر بالدين لتفرض سطوتها السياسية وتمنح إجرامها هالة مقدسة لممارسة قمع العقول للتغول والتغلغل بأطماعها في الأوطان، كميلشيات التطرف من تنظيمات جماعة الإخوان و السلفية الجهادية التي تفضي في النهاية لمصلحة تنظيمات أكثر تطرفاً ودموية مثل القاعد وداعش.

 فأهدافهم الدينية والسياسية واحدة هي إقامة دولة الخلافة، وحجتهم أن الإسلام في أساسه بدأ كدين و دولة للوصول إلى ” حكم الشرعية ” لا حكم الديمقراطية التي يعتبرونها بدعة غربية. وهو ما يمنحهم فرصة تكرار نفس سيناريوهات الإقتتال الداعشي و التي بدأت بؤر منها تظهر في أغلب الدول العربية حتى إتسعت مساحاتها اليوم لتتلاحم في النهاية وتنهار أمامها حدود الدول كما حدث بين العراق وسوريا للتغير خريطة منطقة الشرق الأوسط ككل تدريجيا.

جميع الدول العربية قائمة على أنظمة إستبدادية ودكتاتورية وأصبح إلزاماً عليها التنازل عن الكثير من إستقلالياتها لصالح مؤسساتها الدينية التي تتخذها واجهة و تدعمها وهي دائماً مؤسسات معارضة لتلك الأنظمة السياسية الهشة، فهي لا تعترف بالسياسة المدنية والديمقراطية ولا العلمانية المستقلة ودائما ناقدة لها ودائما يدها تسبق يد سلطة الحاكم. حتى أصبحت تلك المؤسسات تحمي عقيدة التكفير الجهادي لدرجة أن الأغلبية من شعوب المنطقة يعتبرون عقيدة التكفير هي الدين وأن الجهاد هو لإقامة الخلافة لا الأوطان. من هنا جميعنا نستشعر خطورة هذا الفكر كقوة إستقطاب لعقول الأجيال الجديدة.

تيارات الإسلام السياسي دائماً ما تشكك في السلطات الحاكمةخصوصاً لممالك النفط الخليجية وهي في مجملها تعاني ضعف أنظمتها التي ترتكن على الثروات النفطية. ومطالبتهم بإسقاط تلك الأسر الحاكمة لأنها مستبدة ولا تنتهج السلوك الإسلامي الصحيح من وجهة نظرهم، بل وصل الأمر أن هناك شخصيات عامة من داخل المنظومة السياسية لهذه الدول إنضمت للتيارات الإسلامية كأصوات معارضة للدولة أو مخربة لها في الخفاء مما أدى لوجود حالة ضغط داخلي وخارجي لتلك الشعوب بهذه الممالك لإنتظار النقطة الحرجة للإنفجار الموقوت.

وكان الهدف الأول التي بدأت به داعش حربها هو ترهيب الأقليات لتفريغ المنطقة وترحيلهم عنها على أساس ديمغرافي، لتتسع تلك العقيدة الأصولية لدى الداعش لتشمل المنطقة العربية كلها وكل مدينة يدخلونها ويسيطرون عليها! والآن أتت المرحلة الأكثر خطورة و الأكثر تفصيلاً والتي بدأت بالفعل للتخلص من كل المذاهب الدينية التي لا تندرج تحت اللواء السُني الوهابي الذي تتزعمه أموال النفطية بجانب القوى الخارجية الداعمة لهذا الإرهاب لمزيد من تفكيك الشعوب العربية. وهي حرب التطهير المذهبية التي بدأت بالفعل التجهيز لها ولأجل غير معروف مداه.

الحرب المذهبية هي التحدي القادم خصوصا لمنطقة الخليج بين الدولة الإسلامية الوهابية « داعش» و بين إيران التي تتبنى المذهب الشيعي، صحيح لن تكون مملكة آل سعود طرف مباشر بهذه الحرب لأنها أكبر من إمكانيتها ولهذا طالبت مصر بتكوين تحالف عربي لأنها تشعر أن الخطر يزداد إن آجلاً أم عاجلاً.

وتعود أصول اللعبة حين إعترفت أمريكا و المجتمع الدولي بأحقية إيران في مشروعها النووي و بضرورة رفع العقوبات عن إيران، وكأنهم منحوها الضوء الأخضر لإمتلاك وإستخدام ما تحت يديها من سلاح نووي مدمر، وسط مخاوف وتحذيرات ملك السعودية لأوباماً في زياردته للمملكة في يناير 2015، من مغبة إمتلاك إيران لهذا السلاح النووي. على الجانب الأخر نجد أوباما يقوم بدور الوسيط بين إيران وإسرائيل، و يؤكد ليهود امريكا ضمانه الكامل لأمن إسرائيل ومحاولة إقناعهم بالإتفاق النووي الذي يسعي إليه مع إيران حول برنامجها النووي! وهو ما يدعونا للتساؤل، لماذا الدولة الإسلامية إلى الآن لم تهدد أمن إسرائيل التي سيطرت على خليج العقبة بعد أن أخذت السعودية جزيرتي تيران وصنافير. ولماذا صارت وجهتة داعش بعد أن دمرت سوريا، فيتجهون الآن لقلب الجزيرة والخلاف المذهبي الذي بدأ يظهر بها ؟!

وماذا ينتظر من مصير لتلك الدول بعد نفاذ نفطها، خصوصا أنها تحتمي بأنظمة سياسية رخوة، خصوصا بعد أن تخلت أمريكا عن دول النفط العربي ومدت يديها للتعاون مع النفط الإيراني، او بإيجاد مصادر الطاقة البديلة، لتضغط أمريكا والغرب على الزر الداعشي فتشتعل الجزيرة بنفطها في حرب مذهبية قصيرة المدى ولكنها ستأكل أي مقومات للحياة فيها؟!

إن كان يتغافل اليوم الحكام العرب عن كل هذا الذي يحدث، فجاء دور المفكرين والمثقفين لتوعية عامة الناس للأخطار المحدقة بالمنطقة والتي تستلزم تجديد الخطاب الديني في البيت والمسجد والكنيسة والتوعية الثقافية لأولادنا لنحمي أنفسنا من الداخل أولاً وقبل الخطر الداهم من الخارج.