منذ عدة سنوات اتهم القس الورع لكنيسة «دير مواس» بالمنيا مدرساً مسلماً بإغواء زوجته الشابة الجميلة «كاميليا شحاتة» -التى تزامل الذئب بالمدرسة- وهرب بها إلى القاهرة ريثما تشهر إسلامها وتتزوجه، فأسرع الأنبا مطران «المنيا» بالقيام بواجبه المقدس غيرة ودفاعاً عن الدين المستباح، ممثلاً فى المارق العاشق الذى تجاسر على انتهاك الحرمات وما أدراك ما هول إغواء زوجة كاهن يسبغ عليها صفة «أم الشعب»، قام الأنبا بحشد مئات الشباب الغاضبين فى سيارات للاتجاه إلى الكاتدرائية ليعتصموا بها حاملين اللافتات الغاضبة التى تضج بالعبارات النارية الثائرة مثل «فين العالم ييجى يشوف.. الاضطهاد على المكشوف» «ويا مبارك ساكت ليه.. هو تواطؤ ولا إيه»؟! «وشايلين كفنا على إيدينا لحد كاميليا ما ترجع لينا».. «وقل للحاكم جوه القصر.. إحنا اللى محافظين على مصر»..
ثم تتضح الحقيقة تباعاً، حيث يتم القبض على المدرس الذئب فى جنازة عمه بالمدينة التى لم يبرحها، وبالتحقيق معه تثبت براءته من الاتهام المشين، وتتضح الحقيقة أن هروب الزوجة جاء بمحض إرادتها نتيجة خلاف زوجى لا علاقة له بأى بعد طائفى، فقد كان يهينها ويضربها بقسوة لإهمالها القيام بواجباتها المنزلية فتهرع للاستنجاد بوالدها الذى يضربها هو الآخر ويعيدها إلى الزوج.
وهكذا فإن الكاهن الذى يخفى حقيقة هروبها مضللاً الأجهزة الأمنية والجموع الغاضبة، ويكاد يتسبب فى إشعال فتنة طائفيه هو نموذج لرجل يفتقد الإحساس بالمسئولية كما يفتقد الشجاعة الأدبية الكافية للاعتراف بالحقيقة، وكأن الخلاف الزوجى عار ينبغى إخفاؤه، حيث القس وزوجته تشملهما قداسة وطهر نورانى يسموان به فوق ترهات ونقائص البشر وفوق الضعف الإنسانى ليظلا نموذجين لبشر ليسا كالبشر من لحم ودم وأعصاب.
لكن المجتمع السلفى المغلق التكفيرى الكاره للآخر والمعادى فى نفس الوقت للمرأة بحكم الموروثات والمسلمات والتقاليد البالية يدينها على الفور دون أن يفكر أو يتريث أو يتيقن من حقيقة الأمر، فالاتهام الطائفى الذى لجأ إليه القس أسهل ويمثل قناعاً آمناً لمن يرتديه يبعده عن دائرة الإدانة ويلقى بالتبعة على الآخر، ويا عزيزى كلنا سلفيون.
وهذا ما حدث تماماً فى قضية سحل وتعرية المرأة المسنة فى قرية «الكرم» بالمنيا أيضاً، إن السيناريو يتكرر بكل مشاهده المأساوية لقطة بلقطة، فالرجل المسلم الذى اتهم زوجته المسلمة بخيانته مع شاب قبطى أسرع إلى تحويل مشكلته الاجتماعية إلى مشكلة طائفية، دفعت ثلاثين رجلاً يقودهم هذا الشاب إلى إشعال الحرائق فى بيوت المسيحيين وإلى تمزيق ثوب العجوز وكشف عورتها فى زفة جماعية تشبه ما كان يحدث أيام المماليك من تجريس للمرأة المارقة من وجهة نظرهم، هذا المشهد البربرى يحدث بينما الجميع يجأر بصيحات التهليل والتكبير معربين عن انتقامهم الكبير من عدو «ذمى» أثيم، وصيحات الانتصار والتهليل تلك انطلقت عندما أعاد الأمن «كاميليا» ذليله مهانة إلى زوجها القس دون أسلمة، فهذا انتصار للمسيحية يستحق أن تطلق من أجله الزغاريد ويحمل فيه القس على الأعناق (!!) فما معنى ذلك كله؟!
معناه أن الوطن قد هان، فالطائفية تطل بوجهها الكريه وتفرض وجودها فوق «المواطنة»، وأن المناخ الطائفى الذى يشمل أرجاء المعمورة هو التربة الخصبة التى تحتضن الإرهاب وتدعمه وتسهل مأموريته وتعطيه جواز المرور وتأشيرة العبور وصك الغفران والمباركة، إن الشياطين المردة فى داخلنا، يحدق المتشددون بعيونهم الزجاجية ويمسك السلفيون بفتاواهم المسمومة التى تذكى الفتنة وتبذرها فى أرض كانت طيبة وكانت مسالمة، وكانت متسامحة، فصارت شرسة وأمست مدمرة وأصبحت عنيفة.
والحقيقة أن مواصلة السلفيين لرسالة الإخوان بطرح أنفسهم كبديل ووريث لهم من خلال التأثر بفتاواهم المضللة وتكريسهم لفقه الخرافة والتخلف، ومنها معاداة الآخر وتكفيره والسعى إلى تهجيره وكذلك احتقار المرأة، ما زال يلقى بظلاله الكثيفة والكئيبة على الشارع المصرى، فالمزاج السلفى بأفكاره الرجعية وأصوليته القميئة التى لم تبرح بعد عقول وأفكار وسلوكيات العامة فى جميع أمور حياتهم الاجتماعية، وفى ظل عدم التصحيح الجيد للخطاب الدينى، هو المسئول الأول بالقطع عما يحدث وعما وصلنا إليه، إن العجوز البائسة لم تعرها أيدى المجرمين المضللين بنصرة الدين -والدين منهم براء- ولكن عرتها أيدى «ياسر برهامى» و«الحوينى» وغيرهما من الذين أفتوا أن المرأة أصل كل الشرور ورمز الغواية والفساد ومنبع الرذيلة وأستاذة الشيطان التى تتحول إلى وقود جهنم حينما تقوم القيامة وتحين ساعة الحساب، وهى كلها عورة من رأسها حتى إخمص قدميها، ووجودها فى الحياة دنس ورجس وعار وخطيئة، لذلك فلا بد أن تتحول إلى خيمة متحركة تخفى أى إشارة إلى جنسها، بل أى دليل على طبيعتها ككائن بشرى له ملامح إنسانية حتى لا تثير غرائز الرجل، ذلك الحيوان الشبق المتحفز دائماً إلى الوثوب على الفريسة، وقد أفتى «الحوينى» أن وجهها مثل فرجها عورة وبالتالى فإن وجودها فى الحياة ليس إلا وجوداً جنسياً كوعاء لتفريغ الرغبة، ومن هنا فإن الزوج الذى روج شائعة خيانة زوجته له مع الشاب المسيحى، صدق هو نفسه الشائعة، وحركته الهلاوس الدينية التى يروجها هؤلاء الدعاة، كما حركه عجزه واندحاره أمام زوجته القوية التى رفضت ابتزازه لها وتنازلها عن حقوقها الشرعية فى مقابل تطليقه لها، أراد قهرها من خلال قهر العجوز فأسقط هوانه عنفاً عليها، فالملاحظ أنه لم يعتد مثلاً على زوجها بل ركز -وأعوانه- بشاعة إجرامهم وأمراضهم النفسية على المسنة، متسربلين بالدين كملاذ للحماية وإطار بديل للوطنية، لذلك فأنا أوافق الأستاذ «حسام مؤنس» على تحليله للواقعة، مؤكداً أن ما جرى فى حادث «قرية الكرم» هو نموذج واضح وفج لعدم قدرة السلطة ولا المجتمع على تجاوز فكرة «الخنادق الدينية» والاستمرار فى التعامل من خلالها لا من خلال أن المصريين تجمعهم فكرة المواطنة وحقوقها، فالكنيسة هى من تتصدى للدفاع عن حق السيدة التى تمت تعريتها لتعرى معها وتفضح كل الكذب الذى يتردد عن تجديد الخطاب الدينى، والأزهر وبيت العائلة هما من يتصديان لمحاولة إتمام صلح عرفى بينما مؤسسات الدولة من جهات أمنية وجهات تحقيق ومجالس محلية ونواب البرلمان كلهم تأتى أدوارهم لاحقة وتالية لما يقرره ممثلو المسلمين والمسيحيين.
لابد من انسحاب كل من الأزهر والكنيسة من القضية وإلا فرض علينا «بقايا» أو «أشباه» الرجال «الهمجية القبلية» وتدعيم الحلول العرفية، وتراجع القانون، والتكريس لما أسماه الرئيس السيسى «شبه الدولة»، وأتصور أن البابا «تواضروس» قد سبق وتنبه إلى ضرورة رفض أن يلجأ الأقباط فى أزماتهم إلى الكنيسة -كما حدث فى واقعة «كاميليا»- وليس لأجهزة الدولة، وينبغى أن يكون دور المواطن القبطى «وطنياً» لا طائفياً»، فإعلاء المواطنة فوق الطائفية يضع الأزمة فى حجمها الطبيعى كأزمة اجتماعية لا علاقة للأديان بها، كما رفض فى واقعة سيدة المنيا الأخيرة اللجوء إلى جلسات الصلح والحلول العرفية، كما أن الرئيس السيسى باتصاله بالسيدة ومخاطبتها بصفتها مصرية وليس بصفتها مسيحية وتأكيد أن حكم القانون هو الذى سوف يسود على الجميع بداية من رئيس الجمهورية، لعل ذلك ما يدعو إلى الاطمئنان إلى أن النفق ليس مظلماً تماماً، أما المثير للدهشة فهو الصمت المطبق للنخبة من صفوة المثقفات وعضوات المجلس القومى للمرأة والجمعيات النسائية ورائدات النضال ضد المجتمع الذكورى المتسلط.
إن أكبر إهانة للمرأة المعاصرة هى تقاعس المجتمع المدنى وعلى رأسه المناضلات الفاضلات عن التنديد بالقهر والقمع والاغتيال المعنوى والاعتداء البدنى البشع على سيدة «المنيا» وتخاذلهن عن نصرتها والدفاع عن حقوقها، وكرامتها المسلوبة.
إن تخاذل نخبة المثقفات هو العار بعينه.
نقلا عن الوطن