الأقباط متحدون - يوم صرخت آمال: بيرم مات!
أخر تحديث ٠٤:٣٠ | السبت ٤ يونيو ٢٠١٦ | ٢٧بشنس ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٤٩ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

يوم صرخت آمال: بيرم مات!

مفيد فوزي
مفيد فوزي

يومئذ، منذ عشرات السنين، يوم كان الأقباط مدعوين على سحور رمضان فى بيوت جيرانهم المسلمين. يوم كانت عيلة مسلمة تشارك فى إفطار ما بعد صيام العذراء. يوم كان الأطفال يلعبون الكرة دون خطف يزرع الرعب فى الشارع ويحدد إقامة العيدان الخضراء. يوم كانت ثقافة الاعتذار تطفئ الخلافات والمشاحنات. يوم كانت نقابة الصحفيين معنية بالمهنية.. قبل أن يطل علينا زمن الزعماء والنشطاء. يوم كان البلد كتلة واحدة صلبة لا يعرف الانقسامات والتفتتات والتشرذمات. يوم كنا جميعاً نحيى العلم ونغنى: بلادى بلادى. يوم كانت ليالى الحلمية تضىء التليفزيون وفؤاد المهندس وشويكار يرسمان الضحكة على شفاهنا، وآمال فهمى تقدم فى الراديو فوازير رمضان و«نقول كمان».

■ ■
فى ذلك المساء البعيد، كنا نجلس حول مائدة فى الهيلتون، المخرج محمد علوان والمذيعون أمين بسيونى ووجدى الحكيم وكامل البيطار والشاعر الغنائى عبدالوهاب محمد وأنا، وفجأة ظهرت آمال فهمى، نجمة إذاعة ذلك الزمان، وقد انخرطت فى البكاء وانزعج زوجها محمد علوان وانزعجنا جميعاً، ترى أى مكروه صادف كروان الإذاعة الصداح ببرنامجها الأشهر «على الناصية» وفوازير رمضان؟ حين اقتربت منا آمال فهمى صرخت من بين دموعها: «بيرم مات»! صرخة من كلمتين ولكنها تعنى كارثة لآمال فهمى أشهر من التصق اسمه بالإذاعة، العبارة القصيرة تعنى أن آمال فهمى لن تقدم فوازير بيرم الشهيرة وكانت أزجال بيرم ترافق صوت آمال فهمى طويلاً، ورحيل بيرم هو حادثة الحوادث، وجلسنا نعزى آمال برحيل بيرم، شاعر العامية العظيم الذى قال عنه عميد الأدب العربى طه حسين «لست أخاف على الفصحى إلا من عامية بيرم!» ها هو بيرم يودع الدنيا وآمال فهمى فى ورطة، وأخذنا نحن أصدقاء آمال نقترح أسماء وأسماء، وبرز اسم صلاح جاهين فقالت لنا آمال فهمى: كلمته بعد ما عرفت الخبر وكان رده: ما أقدرش ألبس بدلة أبويا!! وتزداد ورطة آمال ويشرد كل منا فى اسم بديل لبيرم، وتكبر دوائر الحيرة وتكتسى ملامح آمال فهمى بالهم كله وباقى على حلول شهر رمضان 17 يوماً!

■ ■
وحدث الآتى، وفق سيناريوهات إلهية، أؤمن بها، انسحبت من بين مجموعة الأصدقاء إلى مائدة أخرى وقمت بمحاولة، كتبت على الورق الذى يضعون الأطباق فوقه، وكانت المحاولة مجرد شخبطة، لم يشعر أحد أنى تسللت وحدى إلى ترابيزة بعيدة وفى يدى قلم فلوماستر، وتصورت أن آمال فهمى بأدائها المعهود تخاطب صاحب «مهنة»، وكتبت تصوراً لآمال تسأله عن مهنته ولعبت ببعض مفردات المهنة التى قد تتطابق مع مهنة أخرى!

لم تكن لى أى دراية بهذا النمط من الكتابة وما حاولت طول عمرى أن أصل إلى حل فزورة، وكنت أهرب من برامج إذاعية تستفتى ذكاء الضيوف، وكنت أخشى أن يظهر غبائى بجلاء عبر هذه النوعية من البرامج، وعلى الجانب الآخر كنت أفشل فى حل فوازير آمال فهمى التى تقدمها كل رمضان، بل إن الفوازير والمسحراتى كانا أهم ملامح شهر الصوم، وفيما بعد - فى زمن التليفزيون- جاءت فوازير نيللى وشريهان وفطوطة لسمير غانم، ورغم إبهارها منقطع النظير، كان لفوازير آمال فهمى سحر خاص.

وأعود إلى محاولاتى فى الكتابة التى أمارسها لأول مرة فى حياتى، وبعد أن انتهيت من الكتابة ذهبت إلى مائدة علوان وآمال فهمى ووقفت أقرأ الورقة ولاحظت عيون آمال فهمى المترقبة وعيون علوان المنتظرة وعيون وجدى الحكيم المندهشة من جرأتى، وكنت ثابتاً وكأنى «حريف» فوازير وقرأت الفزورة بعد أن أوضحت أن آمال تسأل صاحب «مهنة» عن مهنته، وما إن انتهيت من تلاوة الأسئلة حتى قالوا: ده الكناس! ماعدا محمد علوان الذى قال بوقاره الشديد: أسمعها بصوت آمال. وأمسكت آمال بالورقة وقرأت الأسئلة التى من طرف واحد، فقالوا لها: مرة ثانية يا آمال. فقالت آمال فهمى، وقد عادت إليها ابتسامتها: «نقول كمان» وتلت الفزورة التى تنبه لها علوان، وقال: ده الصايغ! فقلت بحماس «صح»، وهنا برز ذكاء آمال فهمى وقالت «مفردة التراب اللى بيكنسه بعناية» هى المفتاح، لأن تراب الصائغ حاجة تانية! وتحمست آمال فهمى وقالت «قوم اكتب واحدة تانية» وقمت أنتحى بنفسى وأختار مهنة مختلفة، ومرة أخرى يفكرون حتى بعد إعادة تلاوتها، وهنا صاح أمين بسيونى - رحمه الله - «ده العرضحالجى مش المحامى» وهتفت: صح! وشعرت آمال فهمى ببعض الطمأنينة، واحتفظت بالورقتين عصارة مخى وقالت: بكرة تيجى كاتب تلاتة كمان: «انت ريحتنى»، واعتبرت تصريح آمال فهمى شهادة، أيامها كنت صحفياً نكرة أتدرب فى صباح الخير، وكان يصفنى أحمد بهاء الدين بـ«روح العفرتة»، وعدت إلى بيتى فى الروضة والدنيا لا تسعنى، لعل هذه إشارة من السماء أن طريقى لن يكون التدريس، وربما شيئا آخر، كنت أمارس الصحافة بعلم أمى، ولم يكن يعلم أبى أنها- الصحافة- تسكن العقل والقلب، رويت لأمى ما حدث بالتفصيل الممل، فقالت: «روح صلى واشكر ربنا على النعمة».

■ ■
شهر رمضان يقترب وتليفون أرضى من آمال فهمى فى السابعة والنصف صباحاً، جيل لا يعرف الهروب من المسؤولية، وكان بإمكانها الاعتذار عن تقديم فوازيرها، فكاتبها بيرم مات وصلاح جاهين اعتذر، قالت آمال فهمى: «أنا معتمدة على الله وعليك!» اهتز بدنى وأنا أسمع عبارتها الأخيرة وقمت أكتب، فأفضل أوقات الكتابة عندى ساعات النهار الأولى.

ذهبت مسرعاً إلى مكتب آمال فهمى فى مبنى الشريفين العتيد، ولم أنس المرور على محمد علوان فى صوت العرب أيام كان القاضى محمد أمين صياد هو مدير الإذاعة، وكان فى الإذاعة المصرية عبدالحميد الحديدى وبابا شارو وأحمد سعيد وصفية المهندس وسامية صادق ومديحة نجيب وفضيلة توفيق. وبسرعة قرأت الفوازير الجديدة لأستفتى أذن علوان ولم يعرف الحلول الصحيحة إلا بعد قراءتها ثلاث مرات، زادنى الأمر شعوراً بالثقة، وعندما دخلت مكتب آمال فهمى قالت لى بطريقتها الخاصة: بص للنتيجة كويس، وحدقت فى أوراق النتيجة، وفهمت أنه لم يبق على حلول الشهر الكريم سوى أسبوع، واصطحبتنى آمال فهمى إلى مكتب مراقب المنوعات محمد محمود شعبان، الشهير ببابا شارو، قدمتنى له، فرمقنى بنظرة مدققة من خلف نظارته الطبية، وأخرجت أوراقى، وطلبت من آمال فهمى أن تقرأها بصوتها وأدائها المميز، فقرأت، ورأيت بابا شارو يفكر، فتطوعت آمال أن تعيدها، وبعد ثوان قال بابا شارو الإجابة الصحيحة، ففرحت حين أطرق برأسه يفكر!

قال بابا شارو وكأنه يصدر حكماً من فوق منصة قاض، موجهاً الكلام لآمال فهمى «على خيرة الله». هنا تنهدت آمال فهمى ومسحت دموعها وعادت لطبيعتها، وعدت أكتب وأشطب وأمزق أوراقاً حتى أصل للصيغة المطلوبة وأسرع إلى آمال فهمى بالحلقات.

■ ■
أول يوم رمضان، جلست بجوار الراديو حتى سمعت آمال فهمى تشرح فكرة الفزورة.. وتتلو الحلقة الأولى بأدائها المتفرد، وعندما انتهت قالت «فوازير رمضان التى يكتبها مفيد فوزى وتقدمها آمال فهمى»، كانت هذه الفوازير هى أول فوازير نثرية، أما بم شعرت وهى تنطق اسمى؟ فالكلمات تعجز عن وصف فرحتى بسعة الأفق، وغامت عيناى بالدمع وأكاد أفقد توازنى وشعرت بعطش مفاجئ واشتقت لقطعة حلاوة طحينية، وأريد أن أصافح كل جيرانى وأصالح من خاصمتهم، كانت مشاعرى مختلطة، وذقت لأول مرة طعم النجاح، إذ كان اسمى المتواضع يطرق أسماع الناس فى شهر استماع لأول مرة فى عمرى!

■ ■
ربما كنت أخفى «مواهب» ما لا أعرفها، ولكنها تحتاج للكشافين المهرة، هناك آلاف مثلى يملكون المواهب ويحتاجون لكشاف يرفع الغطاء عنها لتأخذ مكانها بين الناس، فإذا ما اعترف المجتمع بصاحب الموهبة فتلك شهادة بالنجاح، كما يقول د. زكى نجيب محمود، إن اعتراف المجتمع هو الخطوة الأولى للوصول لأحلام مرتقبة، هناك مواهب مؤقتة ومواهب تعلن سقوطها إذا ارتطمت بالفشل، وهناك مواهب «طويلة النفس» تتغذى على التقدير.

■ ■
كانت الصحافة مدخلاً لعالم الإذاعة وفضاء التليفزيون، وتغير اتجاهى تماماً إلى الكلمة المكتوبة والكلمة المذاعة والكلمة المرئية.

فى عام بعيد ظهر اسمى فى رمضان على لسان آمال فهمى، المدين لها بمشوارى فى الإعلام، إذ استمرت الفوازير المفيدية عشرة أعوام، ها هو رمضان 2016 وأطل من على شاشة C.B.C فى برنامج تليفزيونى يومى بعنوان «اسمح لى» المأخوذ عن كتابى «اسمح لى أسألك» العبارة الراقدة فى الوجدان المصرى يوم أول توك فى الشارع المصرى أستأذن الناس بالسؤال بأدب واحترام، وأنصت وأصغى إليه ولا أقاطعه أو أقفز فى فمه، وإذا قال رأياً فى الحكومة أمرره لأنى - مهنياً - أفهم معادلة التوازن بين الشارع والحكومة وكنت أطرح رأيى فى سياق الحوار، لأنى لا أؤمن بحياد المحاور وعندما ألقى بحمولتى عند المسؤول، محافظاً أو وزيراً أو رئيساً للوزراء، أنشب مخالبى الفكرية وأتحرى وأتقصى حتى أصل إلى معلومة، وقد بلغ بى الغيظ يوماً أنى حاورت «كرسى» رئيس الحى الذى «طلع» إجازة خشية المواجهة، وقلت للكرسى أين شجاعة سيدك الأدبية؟ يومها، ظن الناس أن مساً من الجنون أصابنى، ولكن كنت حريصاً على حوار هذا الجماد الذى يتقاتل الكثيرون للوصول إليه والجلوس عليه!

■ ■

تغير مشوارى يوم قابلت كشافين عظاما: آمال فهمى فى الإذاعة، صلاح زكى فى الإعداد التليفزيونى، سامية صادق فى التقديم كمحاور، وصفوت الشريف الذى رد الهجمة الشرسة من المذيعات الرافضات لبرامجى، حسن فؤاد فى الصحافة، كامل الشناوى فى مرحلة الأحلام. كان قلبى مشغولاً بالكلمة المكتوبة التى أوصلتنى لعتبة التليفزيون، كنت طول العمر أتكئ على موهبة حبانى الله إياها وأبحر بمجدافين هما الحلم والصبر. ومازلت أصارع أمواج الحياة!
نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع