سيدة طيبة بسيطة من صعيد مصر من المؤكد أنه لم يدر فى عقلها طوال عمرها -الذى بدأ عقده السبعينى- أن تثير هذه العاصفة من «التعاطف» معها بدرجة وصلت دوائرها إلى مقر القصر الجمهورى بعد أن انتاب المجتمع بـ«مسلميه ومسيحييه» على السواء، حالة من الغضب الشديد لما جرى لها..!
ومن المؤكد أن السطور التالية سوف تثير غضب البعض ممن اختاروا طواعية إغماض أعينهم عن أية مشكلة حتى لا يشعروا بوجودها.. أو أولئك الذين اعتادوا «التهوين» من أى قضية تجنباً لأن يكونوا مطالبين فى أى يوم من الأيام بمواجهتها والتصدى لها!
ومن المؤكد مرة ثالثة أن محافظ المنيا هو أحد الذين يحلون لهم إغماض أعينهم عن واقع جرى أمامه لهذه السيدة من انتهاك لـ«إنسانيتها وكرامتها» دون أى ذنب ارتكبته سوى أنها «أم»..!!
«موضوع بسيط وبلاش نكبره»، هكذا جاء وصف المحافظ لما تعرضت له هذه السيدة على أيدى «موتورين حمقى»، وكأن «تعريتها» فريضة أوجبها عليهم «دين أبوهم»، أملاً فى أن تصبح «الجنة» محلهم المختار..!
وصف المحافظ لهذه «الواقعة الدنيئة» جاء ترديداً لما ساقه «تيمور» -محمد هنيدى- ليغسل يديه من إنقاذ «نوال» -دنيا سمير غانم- عندما حاول عدد من البلطجية اختطافها أمام عينيه «ما تكبريش الموضوع يا نوال» فى فيلم «يا نا يا خالتى».. فعلى الرغم من «كوميدية هذا المشهد» فإنه أثار «احتقار البعض له».. «وأعتقد أن الجميع قد فهم ما أقصده..!
ما تعرضت له هذه السيدة الفاضلة إنما جاء نتاج التمسك بثقافة «شرا الدماغ» وإغماض العين عن حالة الاحتقان الشديدة فى العلاقة بين بعض المسلمين والمسيحيين على الرغم من وضوح ظواهرها على مدى السنوات القليلة الماضية.. إضافة إلى إدماننا الإقلال من خطورة أحداث صغيرة تصبح عملاقة إذا ما انتظمت فى إطار شكل معين!!
نتنفس الصعداء دوماً عندما نتوهم أن ما يحدث لا يمثل أية خطورة دون أن ندرك أن ذلك هو ما يمكن تسميته بـ«إدمان خداع النفس» وهو إحساس يريحنا بمجرد أن تخبو نيران أى أزمة نمر بها متجاهلين أنها ستظل مشتعلة تحت الرماد.. ودون أن نجهد أنفسنا فى مواجهة أى مشكلة بكل الوضوح والشفافية، وأن نقنع أنفسنا بأن الخطر قد زال وكأنه لم يكن موجوداً فى أى يوم من الأيام!!
ما جرى فى قضية السيدة سعاد ثابت يكشف عن أى مدى تدهورت بنا الأمور.. أصبحنا نعيش حالياً حالة من الاحتقان بين أبناء الوطن الواحد.. الكل بدأ يتشكك فى الكل.. يتربص به.. ووصل الأمر إلى حد محاولة الإيقاع بالآخر.. فأصبح كل منا ينظر إلى باطن يد الآخر فربما يلمح صليباً مطبوعاً عليه أو يتدلى من عنقه.. وفى المقابل تنتاب الآخر لحظة شك عندما يلمح شعر فتاة أو امرأة دون حجاب فى أن تكون فاطمة أو تيريز، ليكون حذراً.. أو أن يكون اسم من يصادفه فى الطريق مجدى أو كمال ليسعى جاهداً فى معرفة الاسم التالى، فربما يكتمل بأحمد أو وليم ووقتها سيكون للأمر طابع خاص..!
واقع أصبح أكثر مرارة لملايين المصريين الذين عاشوا معاً عبر عشرات المئات من السنوات.. إخوة وحّدهم أذان المسجد وأجراس الكنيسة.. تقاسموا الحلم.. تحملوا الانكسارات.. انتشوا بالانتصارات.. لا نفتش فى صدور بعضنا أو نبحث عن خانة الديانة فى البطاقة، ومع كل هذا فقد نجح البعض فى إعادة فرزهم من جديد على أساس طائفى.. بينما اكتفت المؤسسات الدينية بـ«سيناريو ساذج» لتأكيد ما يسميه البعض الوحدة الوطنية تأتى نتائجها دائماً بالسلب، إذ إن مشهد شيخ يحتضن قساً فى أى مناسبة عامة لا يثير أى تعاطف بقدر ما يثير الضحك على تلك السذاجة.. تعمد استخدام مصطلحات: «عنصرى الأمة.. الوحدة الوطنية»، كما لو كنا فريقين أو طرفين ولسنا شعباً واحداً.. مطالبة البعض دائماً بترشيح أقباط فى أى انتخابات عامة، كما لو كانت المسيحية ميزة تميز المواطن المسيحى عن غيره من المواطنين.. تعمد الكشف عن خانة الديانة فى البطاقة الشخصية عند أى تعامل حتى ولو كان فتح حساب بالبنك أو إرسال تلغراف عزاء.. وبالفعل فقد أصبحنا نجيد التفرقة..!
القضية لا تستلزم أى تدخل أمنى أو قانونى سوى فى محاسبة «المخطئ» وليس لفرض حماية للأشقاء المسيحيين إذ إن هذه الحماية ستكون مؤقتة مهما طالت.. بل إن ما يحدث يستلزم «ثورة» فى تصحيح المفاهيم الخاطئة وتجديد الخطاب الدينى الذى يبدو أنه أصبح الشقيق الرابع لـ«العنقاء والغول والخل الوفى».. ووقتها فقط سنعود إلى ما كنا عليه مصريين نتقاسم وطناً واحداً.. فليس المسلمون ضيوفاً على أحد ولا المسيحيون أقلية فى المجتمع.. وسنعيد جملة «كل سنة وأنت طيب» سواء فى رمضان أو فى عيد القيامة المجيد.. وستحمل فيوليت طبق «القطايف» لجيرانها فى رمضان.. وسيمسك عبدالجواد بـ«جريدة نخل» يقدمها لجاره «أبنوب» احتفالاً بـ«أحد السعف».. وباختصار سنعود جميعاً «مصريين» وهذا يكفى تماماً.
نقلا عن الوطن