خلال خمسة عشر عامًا، منذ بدأتُ مشوارَ الكتابة الصحفية، وأنا أتحاشى قدر إمكانى كلمتين: «مسلم- مسيحى»، واستبدلتُ بهما كلمتىْ: «إنسان- مصرى»، إيمانًا منّى بأن العقيدةَ شأنٌ خاصٌّ بين المرء وربّه. أما المواطَنة، فشأنٌ عامٌّ يخُصّنا جميعًا. إن اهتزّت مواطَنةُ مواطنٍ فى أقصى جنوب مصر أو أعلى شَمالها أو أيمن يمينها أو أيسر يسارها، فقد اهتزّت مواطَنتى، وإن أُهينت إنسانيةُ إنسانٍ فى أقصى بقعة من بقاع العالم، فقد انكسرت إنسانيتى، بالتبعية. الأمرُ، كما ترون، محضُ شخصىّ. برجماتىّ. فإن أنا غضبتُ لإهانة امرأة فى أفغانستان، فإنما أغضبُ لكرامتى الشخصية، دون أن أعرف تلك المرأة المُستضعفة. وإن انبريتُ للانتصار لمواطن قبطى مسيحى مُهدَر حقُّه، فإنما أدافعُ عن حقىّ الشخصى، دونما أعرف هذا الشخص المُستلَب حقُّه. وإن أنا أشفقت على ذبيحة تُعذّب قبل نحرها، أتصوّر نفسى محلّها، فأغضب لنفسى حين أغضبُ لها. الأمرُ جَدُّ بسيط. الأمرُ جَدُّ منطقىّ. الأمر جدُّ برجماتى.
عينى مُصوّبةٌ على «الإنسان» وقيمته، دون الاهتمام بمعرفة اسمه أو جنسه أو دينه. قلمى المسنونُ مُصوّبٌ نحو قلب الظالم للذود عن حق المظلوم، دون النظر لعقيدة الظالم والمظلوم، أو نوعهما أو لونهما أو جنسهما. هذا ما نذرتُ له قلمى، وأدفع ثمنه غاليًا، راضيةً مرضية، نتيجةَ سوء فهم البعض حينًا، ونتيجة بُغض الظالم لمن يشير عليه، أحيانًا أخرى.
لهذا استهولتُ تجريد امرأة من جلبابِها وسحلها عاريةً فى طرقات الصعيد على مرأى من شيوخ القبيلة الغلاظ. لم أعبأ بعُمرها ولا بديانتها ولا بموقعها الاجتماعى. فهى أنا، وفقط. ولهذا رأيتُ أن النظر إلى تلك الجريمة من زاوية الطائفية، يُعدُّ تقزيمًا لغول ضخم أبشع وأقبح من الطائفية. غول «انهيار الإنسان». فالإنسانية تسبق الديانات والطوائف والمذاهب. حين تخرج عن مظلّة الإنسانية، فلا يحقُّ لنا أن نسألك أى دين تعتنق. لأن العقائد لم تنزل إلا للبشر، فإن لم تكن بشرًا، فأنت غير مُكلّف وغير مُعتقِد.
أحزنتنى التعليقات الطائفية التى قرأتُها على صفحتى حول الواقعة. قلتُ لقرّائى: لا تَجرّوا الجريمة من الخانة الأخطر إلى الخانة الأقل خطرًا. فجريمة تعرية سيدة أخطرُ كثيرًا من أن تكون جريمة طائفية. امرأة مستضعفةٌ فقيرة، مسنّة كانت أو غير مسنّة، يهودية أو مسيحية أو مسلمة أو لا دينية، إذلالُها وإهانتُها على مرأى من شيوخ القبيلة وبمباركتهم وتهليلهم وتكبيرهم، هو أمر أخطر كثيرًا من الطائفية الضيقة. لهذا غضب من تلك الجريمة كل من هو (إنسان)، وليس المسيحى أو المسلم.
تلك لحظة تنهارُ فيها الإنسانية، وليس العقائد. هى لحظة الاطمئنان إلى غياب المساءلة فيُساءُ الأدب. هى لحظة لابد من أن نقف فيها أمام المرآة لنشاهد سوءاتنا فنسارع بمواراتها قبل أن يلمحها الغرباء. هى لحظة علينا أن نُقرّ فيها بأننا لا نستحق لقب: «إنسان». أحزنتنى التعليقات الطائفية لأننى شاهدتُ فيها خزيًا لا يقلّ عن خزى من يقتلوننا كل يوم بدم بارد. وجدتُ فيها تسطيحًا لهول عظيم، يراه البعضُ مجرد محنة طائفية. هولُ عظيم. حين يتجرأ رجلٌ على امرأة فى عمر أمّه ليُعرّيها ويسحلها على التراب. هولٌ تهتز له السماوات والأرض. هولٌ تُغمِضُ السماءُ عنه عيونها حتى لا تشاهد قبحَنا. لحظة تتساءلُ فيها السماءُ: على مَن أنزلتُ دياناتى، ولأى غرض؟ العقائد نزلت من أجل تهذيبنا وزرع القيم الرفيعة داخلنا، فإن لم تفعل فنحن لا نستحقّ العقائد، ولا نستحق الحياة ذاتها.
على كل إنسان منّا الآن أن يقف أمام مرآة نفسه ويسألها: بماذا أفادنى دينى؟ هل صرتُ أرقى وأنقى وأتقى وأجمل وأنظف وأطيب وأرحم وأكرم وأصدق؟ إن كانت الإجابة: «لا»، فإننا لا نستحقُّ الهواء الذى يدخل صدورنا كل نهار، ولا نستأهل صوت العصافير التى تغرّد حين يرسلها اللهُ كل فجر لكى نتعلم أن نكون رحماء وطيبين.
تلك الواقعة البغيضة هى اختبارٌ حاسم لكل إنسان. فتّشوا عن الصندوق الأسود داخلكم. هل إنسانيتكم بخير؟
نقلا عن المصري اليوم