فى الأسبوع الماضى، كانت هناك معركة انتخابية ومنافسة شديدة على منصب عمدة لندن، بين مرشح إنجليزى من حزب المحافظين ومرشح إنجليزى آخر من أصول هندية من الجزء الذى أصبح «باكستان» فيما بعد، وهو من أصول مسلمة. وهو معروف بنشاطه وشعبيته الكبيرة، وتم انتخابه بفارق كبير فى الأصوات أمام المرشح ذى الأصول الأنجلو ساكسونية العريقة.
عندما ذهب الناخب الإنجليزى إلى صندوق الانتخاب لم يكن يفكر فى دين المرشح ولا أصله ولا فصله وتاريخه، وإنما كان يفكر من الأصلح، والذى أقنعه أنه الأحسن فى دعايته الانتخابية، وبالتالى كان معظم الناخبين يفكرون فى الأنسب. وعند تحليل النتائج وجد أن المرشح الفائز حصل على معظم أصواته من الأحياء التى فيها غالبية من البيض، وأن نسبة التصويت فى الأحياء التى يقطنها المسلمون والسود كانت ضعيفة وغير مؤثرة، فهم لم يهتموا بالذهاب إلى صناديق الانتخاب.
العمدة الجديد فى نظر الإنجليز هو مواطن إنجليزى له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات، ولكن فى عين المصريين والذى نشرته جميع الصحف فى صدر صفحاتها الأولى أن عمدة لندن أصبح مسلماً وبعض الصحف والتعليقات هللت للأمر كأنه انتصار للإسلام، وهو كلام لا يمت للواقع بصلة.
العمدة مسلم لأن أباه كان مسلماً، فهو لم يقرر شيئاً، ولم يعتبر أن دينه له علاقة بكفاءته وقدراته. لم يتظاهر شعب لندن ولم يخرج اللوردات إلى الشوارع ولم يتم تكسير فوانيس الإنارة والتظاهر حول المدينة للتخلص من العمدة المسلم، لأنهم ببساطة لم يفكروا لحظة واحدة فى دين العمدة.
أما فى مصرنا العزيزة، فحين تم تعيين لواء سابق قبطى محافظاً فى قنا هاجت كل المحافظة، وعمت المظاهرات شوارع المدينة والمحافظة كلها وحوصرت المحافظة بالجماهير الغاضبة، واضطر المحافظ للسفر إلى القاهرة حتى تهدأ الأحوال، ولكن الأحوال لم تهدأ وزاد الغضب، وتم تعيين نائب مسلم للمحافظ يقوم بالعمل مؤقتاً وفى النهاية رضخت الدولة لتعصب أهل قنا، وتم إلغاء التعيين، واستلم العمل محافظ مسلم بعد مفاوضات استمرت أسابيع.
تعلمت الدولة درساً قاسياً، فالعالم كله عرف أن ما تقوله مصر بأنها تحترم الدولة المدنية والمواطنة والمساواة ليس صحيحاً، بل ثبت أنه كلام فارغ كمثل قبلات الشيوخ للقسس وزيارة المسؤولين فى الصعيد إلى الكنائس.
لماذا هذا التعصب الأعمى؟ ولماذا هذا التصرف العنيف من الشعب وفى النهاية الرضوخ من الدولة؟ الأمر خطير، فكر المواطنة والمساواة غائب عن وعى المواطن والدولة، ومعظم من رفضوا تعيين المحافظ هم من الفقراء ومن أنصاف المتعلمين وهم من أكثر المصريين فقراً وهم مقهورون فى كل شىء بواسطة القوانين وبواسطة الأمن وبواسطة الإدارة وبسبب أنهم صعايدة يتلقون أسوأ الخدمات وأقل مشروعات التنمية، وهم يعوضون هذا القهر بتعصب مقيت ضد من يعتبرونه أقل قيمة منهم بسبب دينه.
الأمر تعدى اختيار المحافظ، فأصبح الاحتجاج على تعيين مديرة مدرسة أو مديرة إدارة أو ناظر مسيحى مشكلة. كيف يستطيع المدير المسيحى أن يقوم بعمله فى وسط هذه الضجة غير المبررة والعنصرية الفجة والاتهامات الظالمة؟
المشكلة أن الأمر لم يكن كذلك منذ مائة عام وأكثر. كان نوبار باشا- وهو أرمنى مصرى- وزيراً للمالية وكان قطاوى باشا- وهو يهودى- وزيراً للمالية، وكان مكرم عبيد القبطى سكرتيراً عاماً لحزب الوفد، وكان هو المحرك الأساسى، وأهم وزير للحزب الحاكم فى مصر لسنوات طويلة، ولم يغضب أحد من كل هؤلاء أو يشعر بالقهر.
الآن يذكر المصريون عن مكرم عبيد أنه كان حافظاً للقرآن، ويعنى ذلك بالنسبة لهم أنه قبطى مش بطال بينما يذكر المثقفون كلمته الخالدة التى نقلها عنه البابا شنودة بعد ذلك: «مصر ليست وطناً نعيش فيه، وإنما هى وطن يعيش فينا». وإذا عدنا للخلف بضعه عقود نجد أن المهاجرين الشوام من المسيحيين حضروا إلى مصر، وأنشأوا الصحافة المتقدمة وبعض البيزنس، وأصبحوا مصريين بالتجنس، ولم يضطهدهم أحد أو يطالب بقهرهم.
الأمر ينطبق على أشياء كثيرة، فالمرأة فى مصر تحارب لتأخذ وضعها، وهى مازالت فى أول الطريق، وما زال نصيبها من الميراث فى الصعيد منهوبا، وقد كان وزير الحربية المصرى قبل عام 1952 مدنياً، إذا انتخب حزب الوفد، أما إذا حكمت الأقليات، فكان الفريق حيدر باشا، قائد الجيش، هو وزير الحربية، وكان وزير الداخلية دائماً مدنياً. هل يتخيل أحد أن يعود وزير الداخلية مدنياً الآن كما هو فى العالم كله؟
الطائفية كانت موجودة فى مصر، ولكن الموقف تحسن جداً بعد دستور 1923، وبعد أن أصبح الوفد هو الحزب المؤثر والأكبر. ولكن الموقف أخذ يتدهور تدريجياً، والمواطنة وقواعد الدولة المدنية ضعفت لأسباب مختلفة، منها التعليم الدينى، واختراق التعليم المدنى بالمتطرفين، ومنع المسيحيين من تولى كثير من الوظائف. الزيادة السكانية الرهيبة والديكتاتورية، عبر عقود طويلة، والتعليم الطائفى جعلت الحياة صعبة، و«فش المواطن غله» فى الطائفية والتطرف.
لا يمكن لأى دولة أن تتقدم دون الإحساس الكامل بالمواطنة والمساواة بين الجميع.
يا شعب مصر العزيز، كلنا مصريون متساوون، وعمدة لندن لم ينجح لأنه مسلم، ولكن لأنه مواطن محترم، له شعبية فى دولة مدنية تحترم مواطنيها. وللأسف المحافظ القبطى لم يتول وظيفته، ليس لأنه لا يجيد الإدارة، ولكن ببساطة لأنه قبطى! وهذه قمة العنصرية.
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك
نقلا عن المصري اليوم