يختلف القرآن عن غيره من الكتب السماوية (العهد القديم: التوراة وما تفرع عنها من كتب، والعهد الجديد: الأناجيل الأربعة)؛ فالنص القرآنى مقدس بذاته، بكل حرف فيه ولا يمكن المساس به تغييراً أو تعديلاً، أو إضافة حرف أو حذف آخر. ونلاحظ أيضاً أن الجميع يجمعون على أن ترتيب آيات القرآن (6236 آية، تشكل 114 سورة، فى 30 جزءاً) جاء وفق استحسان بشرى. ورغم أن الجميع يوقنون أن أول ما نزل من القرآن على الرسول هو: «اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم» فإنها لم تأتِ الأولى فى الترتيب ربما لأن العرب فى ذلك الزمان كانوا أميين. وربما لأن الرسول كان أمياً.
من هنا كان من الضرورى اللجوء للعقل سواء فى الفهم (إعمال العقل) أو التفسير (الشرح القاموسى للكلمات والأحرف) أو التأويل (النظر إلى المعنى الكامن فى النص بحثاً عن المقصود منه). ونلاحظ أن القرآن لم يقدم أى تفسير لنصوصه لا هو ولا النبى محمد. ويرى بعض المفكرين أن ذلك «عن حكمة ورحمة، فلو فسرت الآيات لتطرقت إلى أمور تسبق زمانها فلا تتقبلها العقول. فالقرآن يتناول أموراً فهمنا نحن بعضها بالكاد وما زالت أمور لم نتفهمها وستأتى أجيال دون أن تفهمها، فهكذا يتجدد فهم كتاب الله بتجدد العصور والعقول». لكن التأمل فى هذا الفهم يوقعنا فى مأزق قد يؤدى إلى إزاحة العقل (الذى لا يفهم حتى الآن ولا حتى فى المستقبل) كما أن إقحام «العقل» فى التفسير عندما يتناوله القائل بالتفسير دون معرفة ولا قدرة على امتلاك شجاعة التأويل يفتح الباب واسعاً أمام إقحام الخرافة واللاعقل فى التعامل مع النص المقدس. ومع افتقاد المعرفة العلمية والإصرار على تفسير ما لا يمكن تفسيره تفسيراً عاقلاً تكون الخرافة رغم أنفنا جزءاً من المكون العقلى الإسلامى.
والأمثلة عديدة ننكرها أو حتى نتهكم عليها ولكنها تبقى كامنة فى العقل أو القلب (كما قال بعض الفقهاء لتعطى العقل الإسلامى منحى خاصاً) ونضرب بعض الأمثلة:
■ يقول الطبرى فى تفسيره «إن النبى داوود سجد لله أربعين يوماً وليلة متصلة وظل يبكى حتى نبت العشب من دموع عينيه» (وتصور البعض أن هذا مصدر العشب على الأرض).
■ والطبرى أيضاً يفسر آية ٧ من سورة غافر، التى تقول «الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم»، ورداً على سؤال من هم الذين يحملون العرش قال «هى حية لها سبعون ألف وجه، فى كل وجه سبعون ألف فم وفى كل فم سبعون ألف لسان يخرج منها فى كل يوم تسبيحات بعدد قطرات المطر وعدد الشجر والحصى والثمر وعدد أيام الدنيا». (أى إن الحية لها مليار و400 مليون وجه).
■ وأجمع الطبرى وابن كثير والقرطبى والسيوطى فى تفاسيرهم (وهم نادراً ما يجمعون على تفسير واحد) على نزول كوكب الزهرة للأرض وتحوله لامرأة من أجل إغواء الملاكين هاروت وماروت ثم عودته للسماء مرة أخرى.
ونلاحظ أن هذه التفسيرات متأثرة بالأساطير الإغريقية القديمة.
■ وقد كتب أحد المفكرين المستنيرين وهو الأستاذ محمود الشرقاوى (مجلة الهلال- نوفمبر 1967)، مقالاً عن «محنة الفكر التقدمى» أورد فيه: قال أحد كتب التفسير إن نوحاً بنى سفينته من عظام حيوان يبلغ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه مسيرة عام كامل. وأورد آخر تفسيراً لكلمتى «يأجوج ومأجوج» أنهما أمة.. لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف ذكر من أولاده وكلهم حمل السلاح وهم يسيرون فى خراب الأرض، ومنهم ثلاثة أصناف، صنف كشجر الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع، ومنهم من يفرش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى. وهكذا يتوالد من مثل هذه التفاسير الخرافية عقل يتقبل الخرافة مثل «أن الشيخ عندما ولد امتنع عن الرضاع من ثدى أمه فى رمضان لأنه صائم أو أنه يسير على مياه نهر دجلة والأسماك تأتى لتسلم عليه». والمثير للدهشة والألم معاً أن مثل هذا التفسير يبقى معنا ليروجه التيار المتأسلم («تأسلم» تعنى فهماً خاطئاً للإسلام واستثمار هذا الفهم الخاطئ لتضليل الجماهير وفرض السطوة عليها) فحسن البنا يقول والده فى محاولة لمنح الابن هالة من التقديس «إن أفعى ضخمة نامت على صدره وهو رضيع لتحميه» وفى اعتصام «رابعة» بعد عزل «مرسى» قال شيخ منهم «إن الرسول جاءه فى الحلم ونام على رجله ثم جاء مرسى ثم أمر الرسول مرسى أن يؤمهم فى الصلاة وصدق المحتشدون وفيهم مئات من المتعلمين وأساتذة الجامعات»، ناسين أو متناسين شروط إمامة الصلاة وأولها أن يكون الإمام الأكثر فقهاً وكأن مرسى أكثر فقهاً من الرسول، وهكذا فإن العقل الإسلامى وبسبب التفاسير غير الصحيحة أصبح غير علمى ولا عقلانى بالكامل. ويتمادى البعض ليقول إنه عقل مصاب بالشيزوفرينيا نصفه مشحون بعلوم عصرية واستخدام وفهم رفيع المستوى (أحياناً) للتكنولوجيا، والنصف الآخر يميل إلى تصديق الخرافة باعتبارها جزءاً من الإيمان، فكتب التفاسير القديمة جزء من التراث القديم ولم يزل كثيرون يستمدون فهمهم الإيمانى منها. والمسلم العادى لا يفرق بين الاسم والمسمى أو الكلمة والشىء الذى تدل عليه. والمسلم العادى يستحضر الله فى دعواته وأمنياته وصراعاته فيقسم بالله دون تمييز بين «الله» الاسم وبين الله «المسمى» ويبقى المسمى مقدساً دوماً والمسلم مسلماً دوماً حتى لو أقسم بالاسم متعمداً الكذب.
وهكذا يظل العقل أسيراً للتراث ما لم يمتلك القدرة والحق فى فحصه، وهنا تتولد خلافات فالبعض سيعتقد أن البعض قد تجاوز وأخطأ.. ولكن الخطأ وارد ويجب أن يعذر صاحبه فإن عوقب كان ذلك إغلاقاً لأبواب ونوافذ العقل. بينما الإسلام لا يفرض عقوبة على من أعمل العقل فإن قال صواباً فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
ونواصل.
نقلا عن الوطن