فاروق عطية
بدأت بوادر الأزمة تطفو على السطح بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية في مصرعلى هامش الاحتفال بذكرى تحرير سيناء الاثنين 25 أبريل، إذ أدانت النقابة اعتقال 44 صحفيا ومنع آخرين من دخول مقرها بوسط القاهرة، فيما نفت وزارة الداخلية اعتقال أي صحفي، وأنها فقط منعت دخول غير الصحفيين للنقابة. وفي اليوم التالي أعلن نقيب الصحفيين في بيان له إن مجلس النقابة قرر عقد مؤتمر صحفي يوم الخميس 28 ابريل بمقر النقابة، بحضور جميع الصحفيين الذين تم توقيفهم خلال تغطيتهم أحداث 25 إبريل، يعقبها مسيرة لمكتب النائب العام لتقديم بلاغات ضد وزير الداخلية، وأشار النقيب إلى أن النقابة ستصدر بيانا في وقت لاحق للرد على جميع التجاوزات التي تعرض لها أبناء الجماعة الصحفية.
ويبدوأن الاحتقان بين الداخلية ونقابة الصحفيين قد بدأت منذ حضور طويل العمر إلي مصر وحصوله علي جزيرتي تيران وصنافير هدية من رئيس مصر نظير كرمه السخي مع النظام وحكومته، ألذي لم يعجب بعض الصحفيين الذين أدانوا بكل شدة العبث بتراب مصر واقتطاع جزء عزيز منه سالت عليه دماء أبنائنا الطاهرة ليعطي من لا يملك بكل بساطة لمن لا يستحق. استشعر النظام الحرج وانبرت قوات الداخلية التي هي دائما في خدمة النظام، وعادت ريما لعادتها القديمة، وانطلقت خفافيش زوار الفجر في القبض علي كل من كتب منددا ومطالبا بعودة الجزيرتين. واحس صحفيان الخطر (عمرو بدر ومحمود السقا) وكانا خارج منزليهما فلجأ كليهما إلي مقرالنقابة للاحتماء بها، مما أدي لتهور بعض الضباط في الأول من مايو لاقتحام النقابة- في ظاهرة لم تحدث في أي عصر من العصور حتي أشدها ديكتاتورية وقمعا- والقبض عليهما مخالفين بذلك قانون النقابة وبنود الدستور المصري اللتان تحرّمان اقتحام النقابة إلا بأمر من النائب العام وفي حضور النقيب أو من ينوب عنه، مما زاد الاحتقان التهابا. ومازالت ردود الأفعال بين النقابة والداخلية والحكومة مستمرة.
للأسف وسائل الميديا (صحافة وإذاعة مسموعة ومرئية) في بلادنا المحروسة تنفسم إلي ثلاث أقسام: القسم الذي يتبع النظام من صحافة أو إذاعة بشقيها المملوكة للدولة، من يعملون بها يشعرون أنهم موظفون لدي النظام يتلونون مع كل حاكم يمجدونه ويجمّلون أخطائه ويجعلونها حِكمة سيعلم الشعب مزاياها مستقبلا، ويدافعون عنها حتي لو كانت كارثية، ومن أمثال هذه الفئة مصطفي بكري وأحمد موسي. فسم آخر يتبع رجال الأعمال أو تجار الدين ويشعرون أنهم موظفون لديهم وهم دائما لسان حال رجال الأعمال أو رجال الدين (إخونيون كانوا أو سلفيون) يميلون حسب ميلهم حتي لوكانت ضد النظام أو ضد الدولة و هم الأغلبية للأسف. وفريق ثالث شديد الوعي والوطنية وحبه منصرف لمصر وحدها لا يخشون في الحق لومة لائم، ويعملون في الصحافة المستقلة ومن أمثالهم إبراهيم عيسي وخالد منتصر.
الفرق شاسع بين صحافة العالم الديموقراطي العلماني وصحافة دول العالم العربي المتخلف. فالصحافة هنا في كندا مثلا صحافة حرة، والصحافة هناك في بلادنا هي في الغالب صحافة مدجنة. عن الصحافة المصرية أتحدث، وأعتقد أنها تصلح كنموذج لكل صحافة الوطن العربى، فنحن جميعا فى الهم شرق، والصحافة المصرية صحافة رائدة تسير على منوالها جميع صحف العالم العربى، كما أن ابتلاء مصر بالديكتاتورية العسكرية كان الرائد والقدوة لجميع ديكتاتوريات العالم العربى دون استثناء، فلولا قيام حركة الضباط المصرية وانغماسها فى شئون الدول المجاورة وتحريضها على الانقلاب ضد النظم التى كانوا ينعتونها بالرجعية الإمبريالية، لما ابتلينا بنزق وتهور القذافى، ولا تعنت وديكتاتورية الأسد ولا دموية وجبروت صدام.
الصحافة فى مصر قبل حركة ضباط يوليو 1952 كانت صحافة حرة، يستطيع المرء أن يكتب فيها ما يشاء ما عدا محظور واحد ألا وهو العيب فى الذات الملكية. وكان لكل حزب سياسى صحيفته الحزبية الناطقة بلسان حاله، يكتب فيها آراء وبرامج الحزب، ويصب فيها جام غضبه على الأحزاب الأخرى مبينا أخطاءها وقصور برامجها الحزبية، لكن دونما قذف أو تجريح شخصى وإلا وقعت الصحيفة ورئيس تحريرها وكاتب المقال تحت طائلة القانون. وكانت هناك صحيفة أسبوعية تسمى البعكوكة، مجلة كاريكاتورية فكاهية زجلية، هكذا كان مظهرها، ولكن حقيقة جوهرها للذين يستطيعون قراءة ما بين السطور أنها صحيفة سياسية من الدرجة الأولى، تستخدم النكتة والفكاهة والزجل لتوصيل ما تريد أن تقوله بالرمز لما لا تستطيع أن تقوله مباشرة. والشعب المصرى شعب لماح محب للنكتة متفهما لما وراءها، وكانت النكتة وما زالت سلاح المصرى الوحيد. وبعد حركة الضباط اللامباركة وتحولها إلي ثورة، ظن الصحفيون أنهم قد تحرروا من كل المحظورات، وأن لهم الحرية فى التعبير ولا رقيب عليهم إلا ضمائرهم. بعد حين انكشف لهم المستور، حين طالبت جريدة المصرى بالديموقراطية وعودة الدستور، الذى تجاهله الثوريون تماما، وضع صاحبيها -أحمد ومحمود أبو الفتح- فى السجون وأغلقت الصحيفة للأبد. كما أغلقت مجلة البعكوكة بحجة أنها صحيفة هزلية لا تناسب المرحلة الثورية، وكان السبب الحقيقى لغلقها هو معرفة الفاشية العسكرية بمدى تأثير النكتة على الشعب المصرى. وتعاملت الثورة مع الصحفيين الأحرار بأقسى وأبشع الأساليب وحشية، على سبيل المثال لا الحصر، وضع على أمين في غياهب المعتقل، وظل أخوه مصطفى أمين خارج الوطن يخشى العودة حتى لا يعتقل، كما ضرب إحسان عبد القدوس بالأحذية فى مكتبه بدار روز اليوسف. أممت الصحف وانتزعت ملكيتها من أصحابها ومؤسسيها لتصبح ملكا للإتحاد الإشتراكى ثم الإتحاد القومى، وبعد عودة الأحزاب الصورية صارت ملكيتها لمجلس الشورى. باختصار أصبحت الصحافة تابعة للزعيم المتسلطن على حرية البلاد، وأصبح الصحفيون موظفين لدى السلطان ولى النعم.
فور قيام حركة الضباط بانقلابهم، فرضت الرقابة على الصحف، وتواجد ظابط فى مقر كل صحيفة، يراجع كل كلمة مكتوبة قبل أن تطبع. وبعد تكوين الأحزاب رفعت الرقابة، ولكن احساس الصحفيين أنهم موظفون لدى الدولة، وخوفهم على لقمة العيش متمثلين لما حدث لمن سبقوهم من تنكيل، جعلهم رقباء على أنفسهم لا يكتبون إلا ما يرونه مدحا وتملقا لصاحب السلطان، وفر خارج البلاد من لم يستطع العوم فى هذا المستنقع. وبذلك أصبحت صحافتنا مدجنة مقصوصة الريش مهيضة الجناح. وبعد فيام ثورتين مجيدتين، إولهما ركبتها الفاشية الدينية المتمثلة في الإخوان المجرمين محاولين جرنا لعصر الخلافة بكل ما فيه من انحدار، وثانيهما ركبتها الفاشية العسكرية لتعود بنا لما كان قبل الثورتين وكأنك يا أبا زيد ما غزيت !
أما الصحافة هنا فى كندا فهى نوعان، الصحافة الكندية والصحافة العربية المهجرية. النوع الأول، هى صحافة حرة تماما، يستطيع الكاتب أن يكتب فيها ما شاء دونما بتر أو حجر على آرائه. أما الصحافة العربية المهجرية، وهذا بيت القصيد- فيؤسفنى أن أقول أنها أو على الأقل بعض الصحف التى تعاملت معها، تدعى أنها صحافة حرة ولكنها كما يقول المثل (أسمع كلامك أصدقك واشوف أعمالك استعجب)، فقد لاحظت أن بعض رؤساء التحرير يحاولون التدخل فى حرية الكاتب فى التعبير عما يريد طرحه من آراء، رغم أن هذه الصحف تكتب فى مكان بارز: أن الآراء المنشورة تعبر عن رأى الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأى الصحيفة. وحتي تكون الصحافة حرة قولا وعملا، لابد أن يعطى الكاتب حرية التعبير عما يجول بفكره من آراء، وما الرأى إلا وجهة نظر، ووجهة النظر تكون قابلة للنقاش، تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ. وبدلا من الحجر على رأى الكاتب، لرئيس التحرير أن يعلق ويوضح ما يراه مخالفا لوجهة نظره، وهذا حق له ولأي كاتب آخر أو قارئ للصحيفة. وهذا ما تعلمناه من دراسة الصحافة بالجامعة، وما تعلمناه أيضا من معايشتها أكثر من خمسين عاما. أما أن يكمم رأى الكاتب لأن ما يقوله مخالفا للخط الذي تسير عليه الصحيفة أو توجهاتها فهذا ليس من الحرية فى شيئ. وأرجح أن يكون السبب فى ذلك لما تعودناه فى أوطاننا من كبت للحريات، حتى بعد أنتقالنا للمهجر ما زلنا نخاف حرية التعبير ولم نستطع التخلص من هذا الخوف حتى فى هذا المناخ الحر المنفتح على كل التيارات. فمتى تتفهم صحفنا المهجرية حرية الصحافة وتمارسها قولا وعملا ؟ ومتى تتخلص من الرواسب التى عانينا منها فى أوطاننا ؟ تساؤلات أحلم أن أجد لها جوابا أو حلا..!!