الأقباط متحدون - ترانيم مصرية
أخر تحديث ١٣:٢٤ | الاثنين ٩ مايو ٢٠١٦ | ١بشنس ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٢٣ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

ترانيم مصرية

مفيد فوزي
مفيد فوزي

أنا لا مثقف ولا من النخبة ولا حنجورى ولا ثورى اشتراكى على كل لون، ولا أنا إبريلى ولا ينايرى، أنا لا أرتدى معاطف الناصرية ولا عندى أقنعة لكل المناسبات ولا يتهدج صوتى تبعاً للظروف والملابسات، أنا صادم صادق، أعيش مرة واحدة وليس للحياة ملحق إذا رسبت فى مادة. أنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

أنا ابن شارع مقبل فى بنى سويف، وعرفت الحب الفاشل مبكراً ولحظتها فهمت وجع القلوب، ودفعتنى الصدمة للكتاب فأدمنت القراءة، ظناً منى أن البنات يقعن صرعى فى الحب أمام ولد مثقف، واكتشفت خطأ نظريتى مع الأيام، فالبنات يقعن فى الحب لأسباب مختلفة، ليس من بينها الثقافة إلا ما ندر، وعاشقات الثقافة خاصمهن الجمال فصرن معقدات يلبسن نظارات كعب كوباية ويتشدقن بما قرأن، كان حلم عمرى بنت حلوة أتغندر بها فى منتزه عزمى، قرة جناين بنى سويف، ومرت السنون فى بنى سويف دون أن يتحقق الحلم، حتى «فايزة» التى كانت «تدوبنى تقاطيعها المصرية» نقل والدها إلى الوزارة فى مصر، وكان من رجال التعليم، وسافرت، وقد ذهبت وحدى إلى محطة بنى سويف فى ميعاد قطر خمسة لكى أودعها وهى لا تعرف مطلقاً أنى أخفى بين ضلوعى حبا لها، وعندما ركبت مع أسرتها القطار لمحتها تجلس على مقعد بجوار الشباك، وحين دق ناظر المحطة الجرس وتحرك القطار لوحت لها بكف مرتعشة فابتسمت ببلاهة اعتبرتها استجابة، وعشت بعدها فراغاً بلا مدى مع أنى لم أسمع صوتها، وكان حباً صبيانياً من طرف واحد، وقد تجرأت ورويت قصتى ليواقيم غبريال، المحامى، عضو دستور 19، والد زميل الدراسة فى بنى سويف الأميرية مكرم. يومها قال لى الأستاذ يواقيم إن هذا الحب من الصغائر، وأن هناك حباً أكبر وأعظم لا تبرأ منه إذا وقعت فيه وهو مصر، وكنا ونحن عيال نطلق اسم مصر على القاهرة، ثم فطنت أن مصر أكبر فهى أم لكذا محافظة، من بينها القاهرة، ولما كنت أتردد على الكنيسة فى ذلك الوقت فقد كانت أول وعظة أسمعها ورشقت فى دماغى هى: لماذا بارك الله أرض مصر، وتصادف أن كانت مصر تحتفل بعيد الجلاء، ويومها قال الأستاذ: مصر طردت المحتل، وفهمت معنى احتلال أجنبى لأرض مصر، وأملك أن أقول تنبه الوعى بهذا الحب لمصر، وكنت قد نسيت غرامى الصبيانى لأن عاطفة كبيرة استولت على قلبى. أنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

كان السؤال الأهم: ماذا نقدم لمصر بعد الحب الشفوى؟، كيف نخدم هذا الهوى عملياً؟، ما المطلوب منى كتلميذ يتأهب للجامعة لخدمة مصر؟. كل الذى فعلته أنى التحقت بجمعية «مصر أمنا» فى النشاط المدرسى وكان يشرف عليها مدرس المجتمع «مصرى عبدالسيد»، هذا اسمه بالكامل، فى هذا النشاط الذى ضم حوالى 30 تلميذاً عرفت وفهمت بشكل أعمق معنى «العلم»، وكان مازال الأخضر بنجومه الثلاث، ورأيت أعلام الدول واعتلتنى رعشة وأنا أمسك بنموذج للعلم المصرى، أدركت أنه ليس قطعة قماش صماء ملونة ولكنه رمز للبلد يرتفع فوق صوارٍ عالية على أسطح سفاراتنا فى الخارج، يكفى أن ألمح العلم فأعرف أن هنا «أرضا مصرية»، ذلك هو الهوى الذى لا يتغير أو يتبدل مع الأيام، إلا فى قلب عميل أو مأجور أو ناشط يعمل فى الخفاء من «علم» آخر، فى المدرسة سمعت معنى كلمة وطن وكنت أتهجى كلمة وطنية بعزة، ولأول مرة فى حصص التربية الوطنية أشرب معانى الوطن والوطنية والأرض والعرض، وأمشى مزهواً بمصريتى وتعلقت بكلمات الوطنى مصطفى كامل «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً» وأحببت كثيراً «أنور أحمد» الذى قام بدور مصطفى كامل فى الفيلم، وبكيت عندما مات، على الجانب الآخر، كان بيتى يساهم دون تعمد فى إذكاء هذه الروح، كان مسموحاً لى أن أتأخر لو كان ذلك من خلال نشاط «مصر أمنا» فى الكنيسة الأرثوذكسية على الجسر، كما كنا نحدد موقعها. كان القمص بطرس له وعظة أسبوعية كل أربعاء بعنوان «مصريات» وكان يبحر بنا فى الإنجيل ويربط الآيات بمصر وبأرض داسها المسيح فى رحلته، وقد زودتنى بزاد الانتماء. أنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

وتمضى الأيام وأقابل فى كلية الآداب بجامعة القاهرة ثلاثة شكلوا وجدانى، د. محمد محمود الصياد، أستاذ الجغرافيا، الذى ربما سبق جمال حمدان فى «عبقرية موقع مصر على خريطة العالم» ود. رشاد رشدى، أستاذ علم الدراما، الذى كانت الأهازيج المصرية والتراث الشعبى «محبرته» حين كتب للمسرح. ود. عبدالحميد يونس، الذى قادنا إلى جماليات العربية وحلاوة العامية المصرية، سيدة اللهجات، وجعلنا نؤمن بأن لغة قوم هى عنوان هيبتهم وكرامتهم.

لابد أن أشعر بالاعتزاز وأنا ابن قسم اللغة الإنجليزية، وهؤلاء الأساتذة الكبار «مفتونون» بمصر، جغرافياً وتاريخياً وأدباً ولغة وتراثاً، وفيما بعد فى رحلة التحصيل الثقافى، كنت أسمع فى الراديو طه حسين وأطرب لنبرته وأقرأ للعقاد ولا أفهمه، وأتابع د. حسين فوزى، السندباد العصرى، وألهث معه، وقرأت للحكيم مقالاته وسمعت صوت سخريته فى يوميات نائب فى الأرياف، كان مصرياً يحكى عن أهلنا، واشتقت لعوالم نجيب محفوظ الذى كان مسرحاً لأعماله الأدبية، وبهرنى يوسف إدريس باقتحاماته للمسكوت عنه، ثم أخذنى محمد حسنين هيكل لصحافته الحديثة، وكنت أقلده فى مراهقتى الصحفية حتى نبهنى أحمد بهاء الدين أن أكون أنا وليس شبهاً لهيكل أو بهاء، حين تعلمت أبجدية السفر، أرهقنى الشوق لمصر، بيتى وغرفة نومى وهدومى المبعثرة وبقايا زجاجة كولونيا وأهلى وحبايبى وجيرانى وأصدقاء العمر، ذلك هو المعنى الذى تجسده كلمة «مصر»، تلك الحروف الثلاثة الغالية المطبوعة كالوشم فى عقلى وقلبى.أنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

أنا ابن حى عابدين الذى يجاور السراى، ولمحت الملك فاروق مرتين فى موكبه الفخيم، أول مرة أسمع بيان ثورة يوليو كان يرافقنى إبراهيم الصحن زمالة الجامعة/ وقد صار مخرجاً يشار إليه، وعشت زمن عبدالناصر، وكان فمى مغلقاً بالضرورة، وعرفت قسوة «الرفد» من العمل فى عصره، لكنى بكيته بحرقة - رغم النكسة - لأنه كان تجسيد للمصرى الوطنى، عشت زمن السادات وأنا صحفى وقدمنا كمال أبوالمجد للسادات ليتعرف على جيل ثان من الصحفيين بعد الأوائل، السادات كان معجوناً بالوطنية، وراوغ العدو بدهائه حتى كسب الأرض ومسح هزيمة يونيو. عشت زمن مبارك وقد جنبنا الحروب طيلة أيامه، وكنت أنام بعمق فى عصره، ثم دق الأشرار على بابه وفتح الباب وهو منهك القوى حزيناً على حفيده، الذى اختطفه الموت، وكانت بداية المنحدر الذى كان مناخاً مناسباً لمؤامرة العالم، فنزل شبان مصريون وطنيون يتظاهرون ويكشفون عن غضبهم، وسرعان ما سرق الإخوان الثورة وأقاموا المنصات وحرقوا مغارات الأمن والمحاكم، واقتحموا السجون وهددوا بحرق مصر، وأطاحوا بالمنافسين، وحكموا مصر بأبلغ درجات الفشل والسذاجة السياسية والتمكن الهش للجماعة، رسبوا فى الامتحان بتفوق حتى واجهوا «تمرد» الشعب الذى استجابت له قواتنا المسلحة، فهدمت المعبد فوق رؤوسهم وعادت مصر إلى.. مصر. نعم أنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

أسير كمصرى وراء السيسى، أسير بوعى ورشد و«أبلع له الزلط»، أسير بفهم لإنجازات عديدة ينسجها رجاله ولا تصل أخبارها لعامة الناس لأن الموصل للأنباء ردىء.

أسير بقلب مفتوح له حتى لو وصفنى السذج بالانقلابى، نعم أنا انقلابى على زمن أغبر تمكنت فيه الجماعة وحدها - دون غيرها - من مفاصل مصر وأسقطت العلم المصرى، ومرمطت قيمة الانتماء وتركت العملاء فى الشقوق يدسون السم، ويفخخون السيارات ويحرضون ويؤلفون القصص ويضربون بالإشاعات ويهللون لضجر النخبة، التى تكاد تكون متعاونة مع الميليشيات الإلكترونية الممنهجة لهدف واحد هو إسقاط الدولة، التى لن تسقط. أسير وراء السيسى لأنه مصرى وطنى أصيل قادر على البطش ولن يبطش، قادر على دك الإرهاب والثأر للشهداء ومازال يفعل بنفس طويل، قادر على الفكاك من الحصار بتآمر الكبار وأشواك الدولار وحمى الأسعار، قادر على ضخ الوعى بمخاطبة المصريين فى جموعهم وتجمعاتهم ويستجيبون.

أسير وراء السيسى ولست بأعمى بصر وبصيرة، بل بعينين مفتوحتين ترقب بناءً جديداً لمصر، ولا يأبه باعتراضات أو إيماءات تصدر من هنا أو هناك، فهو يرسم الطريق ويحدد الإنجاز وتوقيته ولا يصغى للفذلكات ولا للتفذلكات، فهو لا يملك كقائد لبلد بحجم مصر، ترف التلكؤ والانتظار.

السيسى لا يحتكر الحقيقة، وطالما صارحنا بما يفعل وقد ورث تركة صعبة وميراثاً سقيماً، وكان من الممكن أن «يشترى دماغه» ولكنه أراد - بسيناريو إلهى - أن يعيد مصر.. لمصر النماء مهما تكومت المشاكل وكبرت التحديات، «قدها وقدود». أسير وراء السيسى لأنه «يعرف» أكثر منى ومن النخبة ومن الناصريين والثوريين والإبريليين، يعرف الاشتباكات والتقاطعات والمنحنيات والكمائن العلنية والسرية والإقليمية والدولية، نحن - فقط - نرى السطح وهو يدرك العمق والمسار، هو يعرف ما لا نعرفه، وكل دول العالم تترك «الدفة» للقبطان، أما نحن «الزعماء المحدثين» فنريد مكاناً لكل واحد ع الدفة مكان القبطان، وهذه صبيانية سياسية فيها مراهقة.

أسير وراء السيسى على ضوء شموع الأمل التى يشعلها لنرى. أسير وراء قائد «لديه خطة» و«استراتيجية» و«رؤية» أنا أثق فيه وأصدقه لأنه مصرى يحمل أصالة. وأنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

ما اقتربت طول عمرى من حزب من الأحزاب، ربما أتعاطف مع حزب ما حتى يدب الخلاف العضلى، فأخلع، هل أعلنت مصر وفاة الأحزاب التى لم يعد لها ظل فى الشارع؟ أظن ذلك ومصر هى «ظهير» السيسى باستثناء النخبوية والحنجورية والاشتراكية البقسماطية، فهؤلاء يظنون أنهم امتلكوا الحكمة والقيادة وهو وهم كبير يسقطون فى براثنه.

الخلاصة: لا أنا مثقف ولا من النخبة ولا ثورى اشتراكى إبريلى ينايرى ولا عندى أقنعة للمناسبات والملابسات، ولا عندى أجندات والتعلب فات، أنا صادم صادق ثابت، وعمرى لا يسمح بالكذب ولى قناعات ثابتة «لا تتحول».. أنا مصرى بالجغرافيا والتاريخ.

نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع