المجتمع المدنى العلمانى صار شفرة تقدم أى بلد ومفتاح دخوله إلى الحداثة، لم يعد هذا المفهوم يحتاج إلى جهد سوى أن تنظر إلى خريطة العالم لترى وتحدد أى البلاد متقدم بجد وينتج بجد ويعيش رفاهية بجد، ستجده ببساطة مجتمعاً علمانياً لا يتدخل فيه رجال الدين فى السياسة، أما البلاد المحكومة برجال دين سواء بطريق مباشر أو غير مباشر فهى أكثر البلاد تخلفاً على جميع المستويات، لكن السؤال هل من الممكن أن تعيش علمانية بمجرد فرمان رئاسى كما حدث فى تركيا؟، هل يكفى أن يكون الحاكم علمانياً أو مقتنعاً بالعلمانية بدون أن تسرى العلمانية كفكر وقناعة وممارسة اجتماعية عند الناس؟!،
هل العلمانية قرار فوقى لا تحتاج إلا إلى حاكم أم طبخة شعبية تحتاج إلى مفكر يصوغ ويكتب ويحرض على التفكير والنقد وناس تقتنع بأفكاره لتسرى فى خلايا عقولهم وتلافيف أدمغتهم مسرى العصارة فى الزيتونة كما كان يقول د. زكى نجيب محمود؟، ما يحدث فى تركيا الآن هو الذى أثار هذا السؤال فى ذهنى، بدأ انتقاد أتاتورك الذى كان انتقاده جريمة عظمى فى تركيا وبدأت بعض تماثيله حقيقة لا مجازاً يحطمها بعض المتطرفين!!، ولكى يستحضر القارئ الذى لم يزُر تركيا قدر أتاتورك ووجوده الطاغى حتى بعد رحيله، ففضلاً عن وجود صورته فى كل المؤسسات والمكاتب سأذكر لك عزيزى القارئ بعض الطقوس التركية للاحتفال بذكرى وفاته، فى يوم العاشر من نوفمبر -ذكرى وفاة أتاتورك- فى الساعة التاسعة وخمس دقائق صباحاً -ساعة وفاة أتاتورك- يقف جموع الشعب دقيقة حداداً وتتوقف المركبات ويحظر استخدام الكلاكس!!،
لكن هل هذا الحضور الأسطورى الرهيب لـ«أتاتورك» يضمن حضوراً طاغياً مقابلاً لأفكاره العلمانية التى فرضها بالدستور والقوانين فى دولة كانت مركز الخلافة الإسلامية؟، أعتقد أنه بعد كلام كهرمان رئيس البرلمان التركى عن ضرورة فرض الدستور الإسلامى وخروج أصوات تطالب بالتخلى عن علمانية تركيا وظاهرة تنامى النفوذ الإخوانى الأردوغانى وتقلص سطوة الجيش التركى الذى كان حامى العلمانية وحارسها الأمين، أتوقع وبرغم سيطرة العلمانية كل هذه المدة فى تركيا نجد تراجعاً وخسارة أرض للعلمانيين هناك، والسبب ليس إخفاق العلمانية فى تحقيق نجاحات هناك، فقد نجحت العلمانية فى علاج رجل أوروبا المريض وتحقيق نهضته الاقتصادية، ولكن السبب هو أن الترتيب كان خطأ،
فلا بد من حرث الأرض من خلال مفكرين تنويريين قبل زرعها ببذور من مخازن الحاكم، كان لا بد مثلما حدث فى الثورة الفرنسية، فولتير فى البداية ثم يأتى الثوار وقلب نظام وصورة الحكم، فولتير قبل أتاتورك، فولتير أهم من أتاتورك لكى يحدث التنوير وتترسخ العلمانية، كان لا بد أن يتنفس المجتمع التركى أكسجين فولتير قبل وضعه على جهاز التنفس الصناعى لأتاتورك الذى أحدث نهضة وقام بثورة حقيقية غيرت وجه تركيا ولكنها لم تغير ما تحت هذا الوجه من مخ وعقل جمعى بدليل أنه بعد كل هذه السنوات يتسلل حزب إخوانى إلى السلطة، ولنقرأ معاً ما كتبه فولتير خصم الكنيسة وليس خصم الدين فى كتابه «مقالة فى التسامح» حتى نعرف قيمة سريان روح التنوير بالفكرة قبل القانون، يقول فولتير: «إذا كنتم تعتبرون أن عدم الاعتقاد بالدين المهيمن، أو دين الغالبية، يمثّل جريمة، فإنكم تدينون بذلك آباءكم من المسيحيين الأوائل، عندما كانوا لا يزالون أقلية فى الإمبراطورية الرومانية، بل وتبرّرون اضطهادهم وتعذيبهم آنذاك. ولكن أعرف أنّكم ستردّون علىّ الفرق كبير بين تلك الحالة وحالتنا الآن. فكل الأديان الأخرى (أو المذاهب الأخرى) من صنع البشر ما عدا المذهب الكاثوليكى البابوى الرومانى الذى هو من صنع الله. ولكن على فرض أن كلامكم صحيح، فهل ينبغى أن يهيمن ديننا من طريق الحقد، والقلق، والتعذيب والإرهاب؟
فكلما كان الدين المسيحى إلهياً، أصبح ممنوعاً على الإنسان أن يتحكّم به. فإذا كان الله هو الذى صنعه، فإن الله قادر على دعمه وحمايته من دونكم، ولعلكم تعلمون أن التعصّب لا يولّد إلا منافقين فى الدين، أو متمردين عصاة. ويا له من خيار مشؤوم! أخيراً هل تريدون دعم دين الله من طريق الجلّادين، والجلادون هم الذين قتلوا مؤسسه أى المسيح؟ أقول ذلك وأنتم تعلمون علم اليقين أن المسيح لم يدع فى حياته كلها إلّا إلى الطيبة والصبر والتسامح».
نقلا عن الوطن