(الدَفْنَة)
أظلمت الشمس وأخفت شعاعها والقمر صار دمًا... الكواكب ظهرت في وسط النهار، وحجاب الهيكل انشق، والأرض ماجت مرتعدة، وصارت الظلمة في المسكونة؛ لأن ملك البارية صُلب على خشبة الصليب. الصخور تشققت والقبور تفتحت، وأموات قاموا ودخلوا إلى المدينة ظاهرين؛ وعرفهم كثيرون من الناس... إذ لمّا نظروهم عرفوا قوة المصلوب على عود الصليب، وكثيرون مضوا إلى بيوتهم متعجبين ممجدين الله؛ وهم يقرعون على صدورهم؛ منذهلين على ما لم يفهموه.
مزين السموات بحسن النجوم؛ ومؤسس الأرض بروح فيه... بعد أن رفعوه على الصليب وسلّم الروح... أنزلوه؛ لأنه مُماتًا بالجسد محييًا بالروح؛ ومحبوه قائمون إلى الأبد، وأبواب الجحيم مجتمعة لن تقوى عليهم؛ لأن المصلوب فاديهم هو حياة الحياة ومصدر كل حياة؛ وهو أقوى من الموت... لكنه تألم وقُبر ليكون في التراب والظلمة؛ ليأتي بنا من تراب العدم؛ فيكون مُتاحًا للجميع؛ حتى للذين في التراب؛ وقد أمسى صاحبًا للغرباء والمستضعفين والمعدومين وأدنياء الأرض من كل جنس وصَوْب ومن الذين خفي عنهم النور.
عاش فقيرًا بلا زاد ولا زواد ولا سكن؛ ولا حتى قبر؛ لأنه ليس من هذا العالم؛ لكنه أتى ليرفع الذين في القاع، تجسد لأجل الذين على الأرض؛ ونزل إلى الجحيم للذين تحت الأرض في نهاية النهايات؛ ليأتي بالمزدرىَ وغير الموجود وبكل المطمورين والجاثمين في ظلمة القتامة وقفار الوجدان الإنساني.
جاء يوسف الرامي ونيقوديموس الأرخنان؛ الجليلان وأحضرا بخورًا وصبرًا وجعلاهما على جسد السيد الوحيد... دخل يوسف الرامي إلى بيلاطس وسأله قائلاً: أعطني جسد ربي يسوع لأدفنه لتدركني رحمته؛ واشترك معه نيقوديموس؛ فكفنا مخلصنا بلفائف نقية ووجهه لفاه بمنديل؛ وأفاضا طيبًا على رأسه؛ ووضعاه في قبر خارج المدينة؛ لأنه صار مثل الأموات... طرحوه في قبر؛ وبختم ختموا عليه؛ وحرسوا المقبرة؛ لكنه كسر شوكة الموت بموته وأظهر القيامة بقيامته.
يوسف الغني استحق أن يكون غنيًا بالمسيح؛ إذ حصل على اللؤلؤة الفريدة الوحيدة الجزيلة الثمن... غني أخذ بين يديه خزينة الذخيرة الإلهية الكاملة... غني اقتنى المسيح مخلص العالم كله... غني تقبل هدية الهدايا؛ ذاك الذي يُطعم ويدبر كل الخليقة... استلم جسد الابن الوحيد وأنزله من فوق الخشبة... أخذه ولفه بالأكفان والأطياب؛ حيث كان يوسف قد اشترى الكتان النقي للف الجسد. أما نيقوديموس فقد أحضر المُر والعود والأدهان... فارقهما الخوف وأنزلا الجسد المقدس بكل إكرام؛ وسط ظروف مناخية صعبة؛ لكنهما وضعا عليه المر والعود والأطياب والرئحة اللذيذة والمُسرة من صنف الذبيحة نفسها؛ التي تفوق كل الأطياب؛ والتي اشتمها الآب السماوي ذبيحة سرور وسكيبة رضى عند المساء، طيبوا الجسد منبع الطيب وعطروه؛ وهو الذي يجعل البحر كقدر عطارة (أي ٣١:٢١).
أنزلا الإله المتجسد والمصلوب الذي جذب إليه الجميع بذراعيه الممدودة للعالم كله. أغمضوا عيني حارس الخليقة والذي تنظره الشيروبيم والسيرافيم ذوو الأعين الكثيرة؛ أنزلا الذي يحمل الخليقة كلها؛ وجعلاه يرقد على الأرض؛ وبينما جسده متورم ومُثخن من الجراحات والطعنات والجلدات والمسامير والأشواك؛ إلا أنه هو قيامة كل أحد. حملوه على الأيادي وهو الذي ترتعد منه الطغمات. دفنوه ناحية الشرق بينما هو مشرقنا وأصل كل شروق... وضعوا الذي لا تسعه السماء في قبر؛ واضعين صخر الدهور في قبر صخري منحوت... أغمضوا عيني الذي فتح أعين عميان العالم كله؛ وأغلقوا القبر بالختم على من فك كل الختوم وأطلق المسبيين أحرارًا، مسحوا جبينه الدامي الذي يشفي كل نزف؛ وغسلوا جسد الذي غسل أدناس الجميع... لمسوا يديه وجنبه النازف ورأسه المُكلل بالأشواك؛ لكن الموت لم يمسكه، وفتح بوابات الجحيم وصار العالم كله حُرًا به.
كان يوسف الذي من الرامة معروفًا لدى بيلاطس؛ لذلك أخذ على عاتقه خدمة التكفين هذه؛ وقد رتب التدبير الألهي أن يوضع في قبر جديد لم يوضع فيه أحد؛ وقد تكفن بمزيج من المر وعُصارة الصبر والميعة والسليخة والعود؛ من أجل العبور إلى العالم السفلي. دفنوه وأغلقوا على أي باب للمراوغة؛ وقد ختموا القبر بالأختام؛ وغطوا الجسد (الكنيسة) بالثياب ودهنوه بالأطياب الزكية التي تُبيد كل السقطات وتطلق رائحة شذى القداسة وعطر عدم الفساد.
ذهب يوسف الرامي إلى بيلاطس وطلب منه هذا الغريب قائلاً له: أعطني هذا الغريب الذي حكمت عليه بالموت على الصليب؛ بينما هو القدوس والبار... أعطني يسوع الفقير الذي ليس له أين يسند رأسه... أعطني الغريب الوحيد المصلوب العريان والمطعون والمُكلل بالأشواك. أعطني المربوط في العراء والمُزدرى به والمجهول بين الغرباء... أعطني هذا الغريب؛ لن يفيدك جسده... إنه جاء من كورة بعيدة ليخلص البعيدين والمشتتين... أعطني الغريب الذي لا نعرف بلده ولا نعرف أباه ولا كيف وُلد... هذا وقد ساد صمت شديد لأن هذا الغريب ملك متجسد نائم؛ رقد بالجسد – مات الإله – بالجسد – فارتعد الجحيم... المخالفون المزمجرون ارتطموا بحجر الزاوية – المسيح؛ فتحطموا وذهبوا يقرعون على صدورهم؛ بعد أن رفعوا حجر الحياة على خشبة؛ فترضض عليهم، أنزلوه من على الصليب وفكوا رباطات الذي فك الرباطات الأزلية وعتق الغرباء والمُدانين... فكوا الذي قيد الطاغية الشيطان بقيود لا تنحل... ووضعوا المسيح في باطن الأرض؛ لذلك غابت شمس البر وصارت الظلمة دامسة حالكة السواد.
يوسف الرامي المائت تجرأ متقدمًا إلى بيلاطس المائت ليطلب منه جسد الإله المعطي الحياة... الجبلة تطلب من الجبلة أن تأخذ جابل الكل... العشب يطلب من العشب أن يأخذ النارالسماوية... وكأن قطرة ماء تطلب من قطرة أخرى أن تعطي لها المحيط كله... يوسف النجار لفه بالأقمطة عند ولادته، ويوسف الرامي لفه بالأكفان عند موته في القبر، يوسف النجار لازمه في المذود عند ميلاده؛ أما يوسف الرامي فأتى إليه حتى الدفن والقبر.
في ميلاده تقبل أطياب المر واللبان من المجوس؛ وعند القبر وُضعت الأدهان على جسده فصار قبره السيدي كمذود؛ وُلدت لنا فيه القيامة وجِدّة الحياة... إن هذا الغريب كان قد هرب من هيرودس وذهب إلى مصر ووُلد في مذود فقير؛ وعاش غريبًا مجتازًا؛ تركه الأصدقاء وتنكر له إخوته؛ وهرب منه تلاميذه؛ وتآمر عليه الرؤساء؛ وضربه العبيد؛ واحتقره العسكر؛ وظلمه الحكام؛ لكنه لهذه الساعة قد أتى؛ ومجده في آلامه؛ وقد أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة...
لذلك فلنأتِ إليه لنكون به أغنياء؛ ونشترك في خدمة الطيب والأدهان التي للإله الحق أحد الثالوث القدوس... فلنأتِ إلى موضع الجلجثة ونرنم جميعًا قانون الدفنة؛ ونمجد المصلوب مع يوسف ونيقوديموس اللذين سبحاه قائلين: قدوس الله؛ قدوس القوي؛ قدوس الذي لا يموت... ارحمنا يا الله مخلصنا يا من صُلبت على الصليب وسحقت الشيطان تحت أقدامنا خلصنا وارحمنا... فمن جيل إلى جيل سنوك لن تبلىَ؛ ومن قبل الشمس كان إسمك؛ أنزلوك من على الخشبة؛ وكفنوك يا ضابط المسكونة؛ انزلوك وأنت الفخاري الأعظم الذي جذب إليه كل المجروحين؛ وشفعت في المذنبين بآلامك الشافية المحيية... ذقت الموت عن المسبيين والمنفيين؛ وسبقت إلى الفردوس كملك لتُصعد النفوس التي كانت في السجن؛ ولتُصعدنا معك كعظيم رحمتك؛ بعد أن قيدت الشيطان عدونا الأخير بالقيود والسلاسل؛ وقد هرب منك بوابو الجحيم.
فتعالَ الآن يا منقذنا الوحيد واعتقنا من كل ضلالة وكل موت وكل قيد؛ وحرر عبيدك واجتذبنا إليك في هذه الليلة إلى مسكن الفرح.