«الله أسأل ان ينتقم من كل من ظلمنا، انتقاما يشفى الصدور فتهلكهم فى أنفسهم وأهلهم وأموالهم وأولادهم وبيوتهم عاجل غير آجل».
أعتذرُ عن هذا الدعاء الصعب، (بأخطائه الإملائية)، إن كان جرح عيونَكم، أو أزعج صداه المؤلمُ قلوبَكم المُحبّة للخير. فهذا الدعاء ليس لى، فلا خطّه قلمى، ولا نطقه لسانى، ولا رنّ وقعُه القاسى فى قلبى، مهما طالنى ظلمٌ، أو جورٌ نالنى. هذا الدعاء كتبه أحدُهم على صفحته بفيس بوك، ودخل نفرٌ من أصدقائه وعلّقوا على دعائه بالتأمين: آمين!
جلستُ أتأملُ هذا، وأتعجّب. الأصلُ فى الدعاء هو الوقوف بين يدى الله مُسلّمين بضعفنا، مقابل قوته. نهمسُ بنجوانا؛ وما أغناه عنها؛ فهو يعلم السرّ وأخفى. لكننا نلوذُ به إذ لا ملاذَ إلا له، نشكو ضعفنا وقلّة حيلتنا. تخبرنا أدبياتُ الإسلام عن الرسول حين أُوذى فى مكّة وأُخرج منها تاركًا آله وداره، قاصدًا الطائف علّه يجد فيها مُنصتًا، فما وجد إلا غلاظًا جاحدين أمطروه بوابل الأحجار وسوء القول، فلجأ إلى وادى نخلة دامى القدمين كسيرَ القلب، فأخبره الوحى أن الله قادرٌ على إطباق جبلى الأخشبين على العُصاة الظالمين إن أراد، فرفض الرسولُ علّ يخرج من أصلابهم مؤمنٌ نقى القلب. ثم ناجى الله: «اللهم إنى أشكو إليك ضعفَ قوتى، وقلةَ حيلتى، وهوانى على الناس. أنت أرحمُ الراحمين، وربُّ المستضعفين، وأنت ربى. إلى مَن تكِلُنى؟ إلى قريب يتجهّمُنى؟ أم إلى عدو ملّكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضبٌ فلا أبالى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن ينزلَ بى غضبُك، أو يحلَّ بى سخطُك، لك العُتبى حتى ترضى. ولا حول ولاقوة إلا بك». فلم يسبّ الرسولُ مَن سبّوه، ولم يدعُ بالويل والدمار على مَن أهانوه وأرشقوه بالحجارة حتى أدمى جسدُه وهانت نفسُه.
لكن دهشتى من الدعاء فى صدر المقال، لم تتوقف عند هذا. فالدعاء على الظالم بالويل يدلّ على شخصٍ مراهق غليظ القلب، لكنه الجنون أن تطالب بهلاك أهل الظالم وأولاده! أليس بين أهله شيوخٌ مستضعفون، ونساءٌ واهناتٌ، وأطفالٌ غُفلٌ لا يدرون ما يجرى حولهم؟! ما ذنب أولئك وهؤلاء لنرجو هلاكهم؟! ألم يقرأ هذا المسلم آيةً فى كتابه تقول: «ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى»، أى لا تحملُ نفسٌ خطيئةَ نفسٍ أخرى ولا تتحمّل تبعتها؟ فكيف يطلبُ من الله العادل، ألا يكون عادلاً من أجله فيعاقب طفلاً بذنب أبيه، أو شيخًا بإثم ولده؟! هذا نموذج مسلم يُنفّر الناسَ من الإسلام، فيرى فيه المراقِبُ أن الإسلام يأخذ المرء بذنب أخيه، ويُسخّرُ اللهَ، حاشاه، أن يكون أداته فى الظلم بمثل ذاك الدعاء المهين!
أفخرُ دائمًا أن «جهاز الكراهية» فى داخلى معطّلٌ ولا أسعى إلى إصلاحه. فلا أكره حتى من ظلمنى، ولم أقبض على نفسى أبدًا متلبّسةً بالدعاء على أحد، مهما ظُلمت. بل إننى، منذ وضع الإخوان اسمى فى قائمة هدر الدم أيام حكمهم، أحمل فى حقيبتى وصيةً تُبرئ قاتلى، إن مِتُّ مقتولة، من دمى. فما فعل إلا ما أراده اللهُ لى، وكل ما يريده اللهُ خيرٌ، أقبله راضية مرضية.
هلا أنبأتكم عن كاتب ذلك الدعاء على صفحته؟ إنه السيد الكريم والمسلم الغيور الذى رفع ضدى دعوى ازدراء أديان، وحصل على حكم بحبسى سنواتٍ ثلاثًا ليحمى الإسلام من أمثالى من المارقين الذين أشفقوا على أضحية تُعذّب قبل نحرها! أمثالى ممن لا يعرفون إلا الدعاءَ لكل الناس بالخير، حتى مَن آذونا. مَن منّا يزدرى دينَه؟
نقلا عن المصري اليوم