إذا كان التجديد يعنى إعمال العقل ورفض الاعتماد فقط على النقل حرفياً عن النص، فإن تجديد الفكر الدينى إسلامياً ومسيحياً يكون الأساس لإيجاد أسس عقلانية ينبنى عليها تفاهم وتفهم عقلانى من كلا الجانبين، ومن ثم تسامح مشترك، إذ يدرك كل من العقل الإسلامى والمسيحى معاً أن التسامح هو أساس التعايش وأن الحياة المتجددة إذ تفرض نفسها على الفهم العقلى سوف تقارب المسافات بين المتدينين من كلا الاتجاهين.
وفى الإسلام كما فى المسيحية أعمل المجددون عقولهم وإذ يأتى العقل يكون التفهم واحترام الآخر.
وإذا بدأنا بالتجديد المسيحى نجد أنفسنا أمام مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التى أنشئت فى منتصف القرن الثانى وكانت اجتهاداتها الفكرية إسهاماً كبيراً فى توجيه المسيحيين الأول نحو العقل ونحو الفهم العقلانى للنص الدينى. وقد تشابكت هذه المدرسة اللاهوتية مع مكتبة الإسكندرية القديمة وعلمائها فى حوارات وتأثيرات متبادلة. فقد ترأس مدرسة اللاهوت هذه الفيلسوف الشهير أيثناغوراس ثم جاء جيل ثان من كبار رجال الدين المشتغلين بالفلسفة لعل أشهرهم إكليمندس السكندرى الذى كرس فكرة استخدام التفسير المجازى لبعض نصوص الإنجيل ودعا للسعى الحثيث نحو استخدام العقل والعلم والمعرفة فى تحرير الفهم المسيحى من الجمود مؤكداً أن «كل معرفة هى بالضرورة مقدسة»، ومن ثم حارب الخرافات والأساطير التى امتزجت بالعقائد المسيحية، ودعا إلى دراسة الفلسفة وتطويعها لفهم الدين، وقال «إن من يخشى الفلسفة هو كالطفل الذى يخشى الأشباح» [الإنسكلوبيديا القبطية- تحرير عزيز عطية- بالإنجليزية]. ويتواصل الفهم العقلانى المتجدد على يد فيلسوف مسيحى آخر هو أوريجانوس الذى قال «إن فهم الكتاب المقدس يتوقف على الإنسان ويختلف من إنسان لإنسان»، إنها نفس الفكرة المنطلقة نحو احترام العقل وحق الاختلاف التى أكدها على بن أبى طالب «القرآن لا ينطق وهو مكتوب وإنما ينطق به البشر وهو حمال أوجه». ثم تمادى أوريجانوس فأكد أن وراء عبارات الإنجيل معنيين أحدهما ظاهرى حرفى والآخر رمزى أو مجازى. فأدى هذا التمادى إلى أن هاجمته الكنيسة واتهمته بالمروق. فسافر إلى فلسطين حتى تولى البطريرك هيراقلاس [عام 224] فنفى عنه تهمة المروق ودعاه للعودة إلى مدرسته لكنه رفض.
وهكذا كان الأمر فى الفكر الإسلامى، ينطلق سهم العقل ليجدد ويتجدد يصيب ويخطئ لأنه عقل إنسانى ولكن بدونه يكون الجمود ومن ثم التشدد والتعصب والقعود عند الخرافات والأساطير. ويكون الخلط بين الدين المقدس فى نظر أتباعه وبين الرأى فى الدين. فيتسلط على المؤمنين رأى إنسانى يزعم أنه الدين المقدس وأن الالتزام به حتمى وإلا فهو الكفر. ويكون العقل الإنسانى الذى تتعدد اتجاهاته وتتباين سبيلاً لاحترام الآخر والتفهم لأفكاره ومعتقداته والتعايش معه على أساس هذا التفهم. ونبدأ فى مجال الفكر الإسلامى المجدد والعقلانى بقول الفارابى (المعلم الثانى) «يجب الثقة فى قدرة العقل البشرى لا على حل معضلات الحكم والسياسة والأخلاق فحسب بل وحل مشكلات فهم الدين ذاته»، لكن الفلاسفة المسلمين لم يتوقفوا عند الاستعمال الظاهرى والمجرد لكلمة العقل وما يحتويه من فكر ووعى، ولعل أول من أدرك هذه الحقيقة هو الإمام الغزالى [قبل أن يصبح أشعرياً] إذ اكتشف أن التفكير الخرافى والأسطورى يمثل جزءاً من الوعى العام وأن العقل يحتاج دوماً إلى أن يتحرر من هذا النوع من التفكير ليكون عقلاً فاعلاً. ولعل التفكير الخرافى قد أتى الفكر الإسلامى من إصرار بعض الفقهاء على الإفتاء فى كل شىء، وعلى ادعاء العلم بكل شىء، وكثير منهم لا يسمح لنفسه بأن يقول «لا أدرى».
فى حين أن عمر بن الخطاب عندما سئل ما معنى «أب» فى الآية الكريمة «وفاكهة وأبا» أجاب «لا أدرى»، وأضاف «نُهينا عن التفيقه» [أى ادعاء الفهم فى كل شىء]. وفى حين أن المبدأ الفقهى يقول «من أفتى بغير علم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين»، وقد أدرك الغزالى أن العقل مكلف بمواجهة التفكير الأسطورى والخرافى ومكلف بالإبداع المستمر وليس مجرد تقليد من يظن أنهم عقلاء سابقين، وإنما عليه أن يستخدم العقل الخاص به لتحديد مدى معقولية أقوالهم أو مدى استمرارية صحة الفكرة مع تجدد الواقع زماناً ومكاناً. وفى كتابه «المنقذ من الضلال» يسعى الغزالى نحو الفهم اليقينى والمعرفة اليقينية التى تعنى عنده أن ينكشف المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب لا يأتيه الغلط أو الوهم»، والوهم هو ما يتسرب عبر التخيل والخرافة، ويقول «إن العقل يصلح معياراً لا يخطئ عندما تحاول التمييز بين الحق والباطل والخطأ والصواب بشرط أن يتجرد من غشاوة الوهم والخيال وبهذا لا يتصور أن يخطئ أبداً».
وهكذا ميز الغزالى بين العقل الفاعل الذى يتلقى المعرفة عن الآخرين ثم يُعمل فيها فكره ويفحصها ويجردها مما يعتقد أنه خطأ، وبين العقل المنفعل الذى يبدو وكأنه يقف أمام مرآة يتلقى الفكرة أو الرأى كما هو. ويختزنه ويسلم به دون تغيير.
ولهذا يقول سيبويه إن «العقل» صفة وليس مجرد اسم أو فعل فتقول «عَقَل الأشياء عقلاً أى أدركها على حقيقتها».
وهكذا فإن العقل الفاعل هو أساس التجديد والفهم المتجدد الذى يقوم على أساس التغيير فى الرؤية وفقاً للفهم العقلى فيكون ذلك أساساً لاحترام الرأى الجديد ومن ثم يكون أساساً لاحترام فهم الآخر وتفهمه حتى لو اختلف معه. العقل فى المسيحية والعقل فى الإسلام هما أساس الفهم المتجدد والعقلانى الذى يرفض التعصب والتشدد ويفسح صدره أمام الجديد الآخر ومن ثم التعامل معه بأسلوب تعامل محترم وعقلانى.
فتعالوا كى نعمل العقل. وتعالوا كى نتفهم بعضنا البعض، وكى نتعايش معاً على أساس من الاحترام والمساواة. فهذا هو العقل العاقل وهو كما قال الغزالى «العقل الفاعل». ويا أيها المصريون تعالوا جميعاً إلى ساحة العقل وستجدون أنفسكم وبالضرورة متحدين بلا تفرقة وبلا تمييز.
نقلاً عن الوطن