بقلم منير بشاى
لا يمضى يوم دون ان نقرأ او نسمع فى إعلامنا العربى كلاما عن ما يسمى "نظرية الفوضى الخلاقة". وهى نظرية يقولون ان امريكا تتبناها للتآمر على شرقنا الاوسط بقصد تخريبه. وتكميلا للفوضى الخلاقة يتردد ما يطلقون عليه "مشروع الشرق الاوسط الكبير" الذى يدعون ان امريكا تقوم به بغرض تفتيت المنطقة الى كيانات ضعيفة يسهل لها السيطرة عليها. والغريب ان هذه المزاعم تتردد ليس فقط على لسان البسطاء ولكن ايضا على لسان المثقفين ومن يطلق عليهم الخبراء الامنيين.
طبعا هذا الكلام لم يأتى من فراغ. فللموضوع خلفييته، ومع نظرية المؤامرة تحول الكلام الى مزاعم من كثرة ترديدها اصبح الكثيرون يصدقوها.
بداية يجب ان نفهم ان الامر يتعلق ب "نظرية" (Theory).اى انها مجرد مبدأ نظرى لم يصل الى حقيقة ثابتة. النظرية ترتبط بأصحابها واحيانا تسمى بأسمائهم. وفى احيان كثيرة تثبت الايام عوار النظرية وتستبعد من الاستعمال.
فى المقابل هناك تعبير يستعمل فى السياسة الامريكية وهو "العقيدة" (Doctrine) وهو عندما يرتقى الفكر من مجرد نظرية ليصبح عقيدة راسخة. ومن الواضح ان الفوضى الخلاقة ليست عقيدة امريكية لأنها لو كانت لكنا قد عرفنا ذلك من ما يكتب او يبث فى وسائل الاعلام الأمريكية وهى كما يعرف الجميع حرة بلا رقيب.
من اين جاءت نظرية الفوضى الخلاقة؟ وما هى حقيقة وجودها؟
اشارت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية فى ولاية بوش الابن الى شىء مثل هذا فى ابريل 2005 فى حديث ادلت به الى صحيفة الواشنطن بوست. كان ما قالته مجرد راى شخصى ولم يحدث ان طبق هذا الرأى فى عهدها او بعده. ومضت رايس ومضى على الادارة الامريكية التى كانت تعمل فيها الآن نحو سبع سنوات ولكن الكلام عن النظرية المزعومة مايزال يتردد على كل لسان فى الشرق الاوسط وكأنه قد اصبح عقيدة امريكية سارية المفعول الى الابد.
حتى هذا التعبير الذى يطلق عليه فى اللغة العربية "الفوضى الخلاقة" غير دقيق. والتعبير الصحيح باللغة الانجليزية هو Constructive Chaos وترجمته "الفوضى البناءة" وهو يختلف فى المعنى. فالفوضى الخلاقة يمكن ان تعنى خلق حالة الفوضى لغرض تغيير نظام الحكم. اما الفوضى البناءة فهى التعامل مع الفوضى الموجودة لغرض اعادة البناء.
فى صميم المشكلة تحديد من خلق تلك الفوضى وما هو هدفه ومن سينتفع منها؟
الشائعات تتهم امريكا انها افتعلت حالة الفوضى التى انتابت المنطقة العربية فيما يسمى بالربيع العربى. هذه العاصفة التى هبت على تونس ومصر وليبيا وسوريا والبحرين واليمن والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. وقد تسببت فى قلب نظم الحكم فى بعض البلاد وزعزعة الحكم فى البلاد الأخرى.
ما يقال عن ان امريكا وراء ما حدث هو كلام مرسل لا سند له. فمن غير المعقول القول بأن بعض الحكام الذين قد تم خلعهم كان ذلك بناء على خطة امريكية. فمبارك كان الصديق الوفى لأمريكا الذى ينفذ ارادة امريكا دون شرط. وكذلك كان رئيس اليمن على عبد الله صالح. وحتى من لم يكونوا اصدقاء لأمريكا فقد كان عزلهم سببا فى خسائر فادحة لأمريكا. ونحن مازلنا نذكر ما حدث للسفارة الامريكية فى ليبيا والاعتداء على سفير امريكا هناك
وبالمثل لا يمكن القول ان امريكا هى من خططت لتفتيت المنطقة لاضعافها. فمتى كانت تلك المنطقة متماسكة، ومتى كانت قوية بحيث ان امريكا تخشى منها وتحاول تفتيتها واضعافها؟
خذ العراق مثلا: فهى دولة كانت دائما تسودها الانقسامات الدينية والعرقية. وكان صدام حسين السنى العقيدة يحكم غالبية شيعية وهذا لم يوجد الارتياح بينه وبين الشعب. هذا بالاضافة الى وجود اقليات عرقية عديدة لا يجمعها الرغبة فى الوحدة بقدر الخوف من بطش الحاكم. وبعد غياب الدكتاتور وتسريح جيشه ساعد ذلك على قيام داعش وسيطرتها على أجزاء من العراق وسوريا. فمع ان صدام لم يكن الحاكم المثالى ولكن ثبت ان وجوده كان افضل من غيابه، والكثير من الامريكيين يعترضون على مبدأ التخلص منه ويعتبرون ذلك غباء سياسى. وسبب المشكلة مع صدام الاعتقاد انه يملك اسلحة دمار شامل وكان هو من روج لهذا. ولكن ان يقال ان امريكا كانت تهدف لتفتيت العراق فهو ما لا يقبله عقل. فنحن لا نرى وجود مصلحة امريكية فيما يحدث الآن.
وما حدث فى مصر قصة اخرى. اولا خسرت امريكا رجلها الوفى مبارك، ثم قفز الاخوان على الثورة الوليدة. ونحن لا نبرر تأييد امريكا لجماعة الاخوان (ويسأل عن هذا اخونا اوباما واعتقد انه له اسبابه التى لا صلة لها بنظرية الفوضى الخلاقة)، ولكن امريكا اعلنت انها ستتعامل مع اى فصيل يأتى به صندوق الانتخابات وهذا يتفق تماما مع مبادئها. ونحن دائما نلوم امريكا على تعاملها مع الاخوان ولكننا ننسى اننا نحن من صوتنا لصالحهم واتينا بهم الى الحكم.
نعم لا نغفر لأمريكا تأييدها للاخوان عندما قررنا التخلص منهم. ولكن امريكا والغرب لا يفهموا كيف يزاح رئيس منتخب من منصبه بواسطة القوات المسلحة قبل ان ينهى مدته. بالنسبة لهم اى تغيير يتم بواسطة الجيش يعتبر انقلابا عسكريا، اما بالنسبة لنا فهى ثورة شعبية بتأييد جيش الشعب. ولكن حتى هذا لم يغيّر موقف امريكا للأبد فقد عادوا الى تأييد مصر بعد فترة لأن مصر لها اهمية خاصة لأمريكا ولا تستطيع ان تستغنى عنها مهما كان من يجلس على كرسى الحكم.
لا شك ان حالة الفوضى تعم الشرق الاوسط. وهى فوضى افرزتها عوامل محلية وصراعات اقليمية ونزاعات دينية وعرقية. القول ان امريكا خلقت هذه الفوضى لمنفعتها يدحضه الواقع المعاش الذى لا نراه يسير على هوى أمريكا او يخدم مصالحها.
Mounir.bishay@sbcglobal.net