زهير دعيم
المساء هو المساء!فبالأمس فقط أحببتُ هذا الشارع المضيء في قلب المدينة , وأحببت ألنأمة الصادرة عن كلّ عابر تحت شُرفة بيتي...وعشقتُ تلك الظلال البعيدة المُمتدة من شجرة صفصاف عتيقة .
لستُ انكر أن هذا العشق جاء مُتأخرًا ، فالقرية تُعشّش في كياني ووجودي , ..أبدًا أحببتها وذُبتُ جوىً بزيتونها وبيدرها وطابونها وإنسانها،ولكن الأيام مرهم للجرح تداوي وتكاد تُنسيكَ ملعب الصِّبا وعروسًا بريئة تحمل اضمامةً من حبق وتركض خلف النورج.
الأنوار هي الانوار ، والشّارع هو الشارع نفسه والشُّرفة ذاتها ،فما بالي أرى الشارع باهتًا هذه المرّة والمارّين غُرباء والظلّ شبحًا .
أطفالي في الغرفة الاخرى يسرحون ويمرحون ، أكاد اسمع فُتات كلماتهم ...سأقفزُ غدًا على ظهر جدّي ...لا سأقفزُ أنا وسيحملني معه الى الوادي ، فتنبري أمل قائلة : "أنسيتم أنني حفيدته الوحيدة وعلى اسم زوجته، سأكون أنا التي ترافقه في شوارع القرية والفرحة تغمره!!...واتنهّد أنا ...أين حِصتي يا أولاد ؟ ماذا تركتم لي من أبي؟!
ويظهر أني قلتها بصوت مسموع رنَّ في اذن زوجتي وهي قادمة تحمل فنجانًا من القهوة .
- هو لكَ يا رئيف مثلما هو لنا ...انه بركتنا
- ايه...صدقتِ انه بركة كباقي العتاق المنغرسين في الارض ، نعم يا هُدى صدّقيني إنني أعتزُّ بذاك الجيل الذي لا يعرف غير الحجر والزّهر والشّحرور والشّهامة.
- والمدينة أين ذهبَتْ ؟
- سراب ..طِلاء ..كاعب حسناء
- سامحكَ الله ، انّكَ تتجنّى يا رجل .
- عُذرًا فربما ما زلْتُ فلاحًا كما كنت من قبل ، كنتُ اتضايق يومها من هذه الكلمة (فلاح)، كنْتُ أمقتها لو تعلمين ،وأتظاهر بالأصالة في التمدّن ، وأتكلّف ما لستُ اتقن !!
وضحكت زوجتي ، امّا أنا فارتشفتُ قهوتي ورحتُ أغوص في ذاتي اسابق الوقت وأتخيّل والدي بسرواله الاسود يُدلّل وُريقات الدالية ، ويُحنّي يديه بتراب الكرم، انّه الأصيل حسب شريعة والدي ....واستفقت على صوت زوجتي ، أين ذهبت ؟ عُدْ لنا .
وكانت البسمة ما زالت مُعلّقة على شفتيها ، ما الذي يُضحكها ابنة بائع الفلافل ، أما زالت تتذكّرني وأنا احاول جاهدًا أن أستعمل السّكّين في أثناء وجبة الغَداء فخانتني يداي!!..تصببت عرقًا وخجلاً وقتها ، ولعنت القرية والفلاّح ومن فيها ، والآن اندم على تلك اللعنة، وعُدْتُ كما كُنتُ "افصفص"الدّجاج بيدي ّ وما عاد يهمّني أن الفت النظر ، بل انني اعتزّ بخشونتي! وليقُل ساكن الشارع المضيء في قلب المدينة ما يقول!!.
أعرف تمامًا أنّ عهد الطابون في قريتنا قد انطوى منذ زمن بعيد، وانطوت معه أشياء كثيرة ، ولكن الذي لا ينقضي هي شريحة البشر هناك ، فهُم من طينة لا تعرف الخداع والتكلُّف ، بل تطرب للسنونو مثلما تطرب للميجانا، وتسكر من ماءٍ زُلال سحَّ من مِزراب السطح ، وتثمل من كأس عرق آنس قصاع التبولة !!
سقى الله تلك الأيام ، جملة ما انفكّ يُردّدها والدي على مسمعي، في كلّ مرةٍ أزوره. ثمّ يتنهّد مُتذمّرًا من هذا الجيل ، الذي نفَضَ يديه من كُلّ شيء مُقدّس ،وترك الثعالب تعيث فسادًا في الكروم . انه يتألم والسنوات تزيد من ألمه ، والحوادث تقضّ مضجعه.
"لا أرى في الافق وميضًا يا بنيّ " يقولها ودمعة حيرى تترقرق في عينيه ، ويحاول أن يخفيها.. ثم يتابع " رعود أيامنا وثلجها غير هذه الرعود والثلوج يا رئيف ، كانت بركة .
وأنْفَلِتُ من الذكريات وأعود لفنجاني وشُرفتي والشارع المُضيء الباهت .
******
لم نكد نصل زيتون القرية حتّى هلّل الأطفال تهليلا ، ورُحت أنا بدوري اتذكّر لهم أسماء المواقع ، فهذه "الخلّة "وتلك "الخِربة"وذاك تلّ الشهيدة , فهناك قبل ستين سنة أطلق الجنود النار على امرأة حامل من الحارة البعيدة ، كانت عائدة من الحصاد حسب رواية أبي .
وصلنا القرية. وانعطفنا الى الشارع الجانبي الموصل الى بيتنا العتيق والكرم، فلم نقع لأحد على أثر . وراح الأطفال يبحثون عنه فوجدوه غافيا تحت الخروبة الأزلية ، فأيقظوه فقام ضاحكا على غير عادته ، فقد كان يُجن حين يوقظه احد من نومه ..يريد ان يشبع نومًا كان يقول !!
ضحك والدي، ونادرا ما رأيته يفعل ذالك كما يفعل الآن ، ماذا حدث لهذا الفلاح الغليظ!!
وعانقنا واحدًا واحدًا وقبل حفيدته أمل قائلا ً : " ارى فيك يا أمل،
أمل الكبيرة الراحلة الى السماء ، ارى فيك تلك التي احتملتني واحتملت العذاب والشقاء ، وماتت وهي تُصلّي لنا جميعا ..
ومر سرب من الطيور المهاجرة فوقنا ، فانشرح صدر والدي وقال انظروا هذه الطيور الجميلة العائدة الى أوطانها ، ألا ترون معي انها جميلة يشدّها الشوق ..ثم امسك بيدي وقادني الى داخل البيت العتيق .....انظر يا رئيف ، منذ ان رأت عيناي النور والسنونو تعشّش على جسر هذا البيت ، وتُربّي صغارها جيلا بعد جيل ، ولطالما أطربتنا الى ان جاء موسم بُعيد وفاة المرحومة امك بأيام, فلم نجدها ، هجرت العشّ وأضحى الجسر أطلالاً...ومرّت السنوات والسنونو بعيدة ، بعيدة ..الى أن جاء نيسان الماضي فاستيقظت على زقزقة أعهدها ...نعم بنته من جديد يا ولدي ، بنته من جديد وزرعت معه في قلبي أملاً جديدًا ..
وسحّت دمعتان غمرتا ابتسامته المنحوتة على ثغر التاريخ ..
امّا أنا فعُدْت مع السنونو !!ّ!