كتب : عوض بسيط
على هامش ذاكرة المصريين يعيش تاريخ أول رئيس لمصر، اللواء محمد نجيب، بعد أن قضى سنين عمره الأخيره معتقلاً سياسياً محددة إقامته، وبعد أن دفع ثمن بقاء "جمال عبد الناصر" في السلطة حسبما ذكر في مذكراته المعنونة "كنت رئيساً لمصر"، حيث يقول عن فترة تحديد إقامته: "ثمن البقاء في السلطة كان دائماً دماء أبناء مصر ودماء خيرة شبابها" وعن صدمة ابنه "فاروق" عندما أراد النظام وقتها طمس تاريخ أبيه نستمع للكلمات من فم مذكرات محمد نجيب:
"عندما جئنا إلى معتقل المرج جاء إليّ فاروق ليسألني في اهتمام شديد:
- أبي.. هل صحيح أنك كنت رئيساً للجمهورية؟
- نعم يا بني.. لكن ما الذي يجعلك تسأل هذا السؤال؟
ولمحت دموعاً في عيني الصبي، وهو يقدم لي كتاباً في المطالعة، جاءت فيه هذه العبارة: "وجمال عبد الناصر هو أول رئيس لمصر"!
ويستطرد نجيب: "رفعت المطابع اسمي من كافة الكتب.. شطبوا اسمي من التاريخ.. وزوروا التاريخ.. بل وحاولوا أن يتعاملوا معي كأنني لم أوجد ولم أولد، وكأنني كذبة أو خرافة أو إشاعة".
البداية في السودان
ولد محمد نجيب في السودان من أب مصري كان ضابطاً بالجيش، وأم سودانية، إلا أن تاريخ ميلاده غير معروف على وجه التحديد فيقول في مذكراته: "أنا لا أعرف بدقة تاريخ ميلادي! أو أعرف ثلاثة تواريخ، ولا أعرف أيهم أصح! ففي مذكرة أبي الخاصة كتب التاريخ الأول وكان 28 يونيو 1899 وكتب أمامه نمرة واحد لأنه كان يطلق علينا أرقاماً... ولأنني كنت أعتقد أني أكبر اخوتي فتصورت إني المقصود بنمرة واحد.. لكنني اكتشفت فيما بعد أن أبي كان متزوجاً من أخرى قبل أمي وأنجب منها أخي عباس الذي توفي مبكراً.. أما التاريخ الثاني فقد قرره القسم الطبي بالجيش.. وكان 19 فبراير 1901... التاريخ الثالث مأخوذ من تاريخ ميلاد أحد أقاربي.. حيث أكد لي أحد كبار العائلة أنه أصغر مني بأربعين يوماً، وبالحساب يصبح تاريخ ميلادي 7 يوليو 1902".
ما بين السطور
.. مالم يذكره أحد عن الثورة كتبه محمد نجيب بنفسه، فيقول -في مذكراته- أنه أول من أطلق تسمية "الضباط الأحرار" على التنظيم الذي أسسه جمال عبد الناصر، ولكنه ندم على تلك التسمية بعدما اكتشف –على حد قوله- أنهم كانوا أشراراً، ويشرح: "كان أغلبهم –كما اكتشفت فيما بعد- من المنحرفين أخلاقياً واجتماعياً.. ولأنهم كانوا في حاجة إلى قائد كبير، ليس في الرتبة فقط، إنما في الأخلاق أيضاً، حتى يتواروا وراءه ويتحركوا من خلاله.. وكنت أنا هذا الرجل للأسف الشديد".
وبشيء من التفصيل يحكي كيف ترك أحدهم شقته المتواضعة، واستولى على قصر من قصور الأمراء في جاردن سيتي، وآخر كانت أسرار مجلس قيادة الثورة في يد زوجته التي كانت تتباهى بأن الجيش في يدها اليمنى والبوليس في اليسرى، وكيف استبدلوا سياراتهم بأخرى فارهة، وأن أحدهم خسر مئات الجنيهات على طاولة القمار في ليلية واحدة.. هذا بالإضافة للإطاحة بالمعارضين وتلفيق القضايا لهم.
ولا ينفي نجيب مسئوليته فيقول: هل أنا المسئول عما حدث لمصر على أيديهم بعد ذلك؟ أظن أني مسئولاً.
سر الخلاف
يكمن سر الخلاف بين ناصر ونجيب في رفض الثاني تدخل الجيش في الحياة المدنية، ومطالبته بعودة الجيش إلى ثكناته، وعودة الدستور والحياة النيابية، وهو ما كان يرفضه ناصر، الذي كان يكرس لحكم الفرد –حسب مذكرات محمد نجيب- ففي 5مارس صدرت قرارات ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين. إلا أن المجلس عاد ليتراجع عن قراراته خاصة بعد حادث المنشية ومحاولة اغتتيال ناصر، وتطورت الأمر إلى قرار مجلس قيادة الثورة بإعفاء نجيب من جميع مناصبه، وتحديد إقامته بفيلا بالمرج، ظل فيها طيلة 29 عاماً، ولم يخرج منها إلا قبل وفاته بعام واحد في 1983.
أبناء الرئيس
يحكي أول رئيس لمصر في مذكراته عما عاناه أبناؤه فيقول أن الابن الأكبر "فاروق" استفزه أحد المخبرين الذين كانوا يتابعونه وقال له: "ماذا فعل أبوك للثورة.. لا شيء.. أنه لم يكن أكثر من خيال مآتة ديكور واجهة لا أكثر ولا أقل". فلم يتحمل فاروق هذا الكلام وضرب المخبر، ويومها لم ينم فاروق في البيت فقد دخل ليمان بتهمة الاعتداء على النظاموسبه، طره وبقي هناك خمسة أشهر ونصف خرج بعدها محطماً منهاراً ومريضاً بالقلب وبعد فترة قليلة مات.
أما الابن الثاني "علي" فتعرض للضرب حتى الموت في ألمانيا، ولم يسمح لوالده باستقبال نعشه أو قراءة الفاتحة على قبره.
الأسعد حالاً –حسب تعبير محمد نجيب- هو الابن الثالث "يوسف" الذي عمل سائقاً بشركة المقاولون العرب صباحاً، واشترى "تاكسي" بالتقسيط يعمل عليه مساءً.