بقلم المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سورية
عندما كنت صغيراً لم أفهم الفصح إلا هدايا وبيض ملوّن وصيصان، والجمعة الحزينة هي أن أذهب مع الكبار الى الكنائس وأصلي واخفض رأسي أمام المسيح المسجى، وأطلب منه أن يسامحني على أشياء لم أفهم معناها ولا أعرف لما علي أن اطلب المغفرة لها (ولكن الكبار قالوا لي أن أطلبها من يسوع الذي لم أعرف أن أسمه أيضاً المسيح الا عندما كبرت قليلاً)، وكان كل اهتمامي عندما كنت أقف محني الرأس – لأن الكبار هكذا علموني – هو أن نخرج من الكنيسة الى ساحة فرحات ليشتري الكبار لي كعكاً وبوشاراً (لأنني فعلت كما يريدون ولم أعذّبهم في التجوال).
وكان عيد الفصح مناسبة لممارسة دوري كربّ اسرة، فكنت أطعم الصوص الصغير المسكين ثلاثة وجبات، وعند المساء أقوم بغسله بالماء والصابون (كما تفعل خالتي التي ربتني وامي)، ومن ثم أفرش له لينام، بعد أن أقوم بتجفيفه وعصره وتعطيره ... وفي اليوم التالي أستيقظ فلا أجده، ويخبروني بأنه مات.
وانا بطفولتي لم أع الموت، وكل ما فهمته أنه مرحلة يغيب فيها الشخص لفترة من الزمن لن تتجاوز الا أياماً قليلة، يعود بعدها بشكل عادي.
اليوم أسترجع الذكريات الجميلة
دورة الكنائس في يوم الجمعة الحزينة
صوت فيروز الذي يشدني "اليوم عُلّق على خشبة"
الكبار أعضاء الجمعيات الخيرية الذي يجلسون عند باب الكنيسة ويسجلون الحسنات المالية التي يقوم بدفعها المؤمنون لمساعدة الكنيسة على القيام بواجباتها الاجتماعية.
أتذكر بعض الأساقفة والكهنة والأشخاص الذين غادرونا الى عالم الروح.
أتذكر الحجارة في الكنائس والأرصفة في الشوارع، كم لعبت عليها وانا امسك بيد خالتي، وانا اضع قدما على الرصيف وقدما في الشارع واسير معها وهي تشدني.
كم أتذكر الكبار الذين نقف معهم، فأرفع رأسي حتى أراهم وأنا أنتظر أن نذهب لنشتري الكعكة المدورة المعلقة على قضيب خشبي، يرفعه البائع من طرف ويُخرج الكعكة منه.
ثم يأتي دور الغزلة الملونة (وانا أصر أن يكون لونها أحمر)، فلا أعتبر انه يوم الجمعة الحزينة إذا لم أمارس فيها التقاليد الكنسية التي أفهمها، وهي الدخول الى الكنيسة وإحناء الرأس مع أن العيون تدور في كل الإتجاهات، وبعدها شراء القطن المقدس، ثم الإلتقاء بالناس، واخيراً ما يعجبني أكثر شيء هو شراء الكعكة والغزلة (غزل البنات).
أما في العيد فأهم شيء بالنسبة لي هي الثياب الجديدة، وكنت ألبس كالكبار ... طقماً لكي أبدوا كرجل صغير جداً، وأهم شيء أن تكون ياقة القميص قاسية، لكي أبدو تماما كالكبار.
هذه الذكريات التي تمر بي الآن أراجعها فيغص بي حلقي.
أين الكنائس واين الساحات وباعة الكعك والطفل باسل الذي تغريه بطنه الصغيرة.
أين الأطفال والكبار....
أين الساحات...
أين دورة الكنائس والحجارة والأرصفة...
هاجرت الحجارة وهاجرت الأرصفة كما هاجر الكثير...
صوت فيروز أحسه أكثر حزناً، وهذا المعلق على خشبة .. ألن ينزل؟ ... ألن يهاجر هو أيضا؟
نستيقظ يوم الأحد ونقول لبعضنا البعض ... المسيح قام ... حقأ قام
وانا اكتشف بعقل ذلك الطفل الصغير باسل الذي لم يتجاوز الأربعة سنوات أن المسيح قام ولكن من حلب.
وسورية التي اعتقدوها ماتت ... ستقوم أيضا من حلب.
اللهم اشهد أني بلغت