من بين الأبحاث الرائعة التى زخرت بها ندوة «صناعة التطرف» بمكتبة الإسكندرية تميز بصورة لافتة بحث للأستاذ محمد العربى، الباحث بوحدة الدراسات المستقبلية - مكتبة الإسكندرية. وهو بحث لا يؤكد فقط على جديته وإنما أيضاً على إبداعاته الفكرية.
والبحث يبدأ كالعادة بالإشارة إلى ما أحدثه صعود الحركات «الأصولية» (مع تحفظنا على استخدام لفظ الأصولية، فالأصل جليل) من صخب وعنف عارم فى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يذهب إلى ضرورة فحص ونقد خطاب الإصلاح والتجديد فى الفكر الدينى. ويصل الأمر بالأستاذ محمد العربى إلى التأكيد على أن أخطر ما يواجه الفكر الإسلامى هما نزعتان تقوم كل منهما على إعادة التعريف بأصول الدين والشريعة مع تجاهل التراكمات الاجتماعية التى أدت إلى خلط الدين مع التقاليد الاجتماعية بما قدّم فهماً مشوشاً للدين، وجعل الفكر الإسلامى الحديث قائماً على ثنائيتين، الأولى الأصالة والتجديد عبرها، والأخرى المعاصرة أو الحداثة، وانتصر آباء الإحياء الدينى لفكرة المواءمة بين كلتيهما.
ومع الصعود العنيف سياسياً واجتماعياً للحركات الإسلامية السياسية تغلّب التقليد ورُفضت الحداثة. وهكذا نجد أبناء الحاضر يتجادلون بذات أسلوب أجدادهم مستخدمين ذات اللغة وذات الحجج، ومتناسين ما يولّده الحاضر والرؤية المستقبلية من قضايا.
كما تؤدى استعادة الطائفية الدينية والمذهبية إلى استعادة لحروب وصراعات الماضى بما يعطل إمكانيات الخروج من جحيم هذه الصراعات. وتتحول هذه النزعة «إلى أن يكون الصراع بين جدليات الفكر الإسلامى الكبرى وقضاياه مجرد صراع بين نصوص، وقلما انفتح هذا الفكر على المتغيرات الحادثة فى المجتمعات المعاصرة».
ثم يقول: «تمثل الأصوليات الدينية، وهى فرع من الإسلاموية أو الإسلام السياسى، أخطر تجسيد للنزعة الماضوية» (وأستأذن فى ملاحظة على كلمة إسلاموية، فهى لغوياً تعنى النزوع نحو الإسلام ذاته ولعل هذا عكس ما يقصده الباحث، فهو لم يلتفت إلى تأثير «الواو» التى تعنى تجسيد ذات الاسم كماضوية وتربوية ونهضوية) ونعود له وهو يحذر من «الإسلاموية» التى تعنى كما يقول هو «القفز على تحولات المجتمعات الإسلامية وكل صراعاتها وتاريخها من أجل محاولة استعادة ماض لا توجد إمكانية لتحقيقه»، «كما أنها تحاول إعادة تشكيل الحاضر عبر فهم محدد للنصوص الدينية دون أن تدرك الواقع الذى أنتج النصوص ولا الواقع الذى تحاول استعادته».
ويعود بنا محمد العربى إلى أصل أزمتنا الحالية قائلاً: «فلقد أثار الصعود العنيف للحركة الأصولية وتصدرها المشهد الدولى جدلاً حول ضرورة التجديد والإصلاح الدينى باعتبار أن الجمود الفكرى هو المسئول عن صعود حركات العنف».
ويقول: «وتكمن المشكلة الحقيقية فى اعتقاد البعض ومنهم المؤسسات الدينية الرسمية أن مسألة تجديد الخطاب تستند إلى الأخذ بالإسلام الوسطى الذى هو الإسلام الصحيح فى مواجهة التطرف والأصولية».
وبعد سلسلة من الحجج المنطقية فى رفض مختلف توجهات التجديد الراهنة يستخلص الكاتب نتيجة بالغة الأهمية فيقول: «إن الخطاب السائد غير قادر على تقديم استراتيجية ناجحة للتعامل مع أزمة الأصولية لأنه يعيد إنتاج العوامل التى تغذيها».
وهكذا يستدعينا محمد العربى، بل هو يفرض علينا أن نبحث عن مسار جديد. ويستعير فى هذا الصدد مساراً اقترحه المفكر المغربى د. المهدى المنجره وهو عالم فى المستقبليات ويقدم رؤية محددة تقول إن «الإسلام أولاً وقبل كل شىء رؤية ومشروع اجتماعى ونظام لقيم مجتمعية ثقافية، ومن هنا فإن المخرج الصحيح هو أن تعاد قراءة شمولية الإسلام وعالمية القيم التى يبشر بها فى سياق أوسع لإقامة مجتمعات أفضل وصياغة مستقبل الوجود الإنسانى».
وهكذا يستدعينا إلى «تجاوز فكرة الإصلاح الدينى أو تجديده لأنها مجرد فكرة تشعل الصراع بين النصوص واحتكار تفسيرها سواء كانت تفسيرات تقدمية أو رجعية ومن ثم الانطلاق نحو إصلاح اجتماعى أشمل وأعمق يستطيع تحفيز الإمكانيات التحررية فى الدين»، أى هو يدعونا إلى التخلص عن محاولات قراءة النصوص وتفسيرها وتأويلها وبعد ذلك الانطلاق لتطوير المجتمع ذاته. ويمضى قائلاً: «كذلك فإن التفكير المستقبلى يحفز على إطلاق العقل التاريخى وهو العقل اللازم لقبول تغير العالم وتغاير المجتمعات».
ثم يقول: «ووفقاً لهذه الاستراتيجية الفكرية تصبح المجتمعات الإسلامية على إيمان بقدرتها على صناعة مستقبلها من خلال إعادة تشكيل حاضرها، وبهذا تتضمن الفكرة المستقبلية نظريتين متلازمتين، الأولى السعى نحو المستقبل المأمول، والثانية نحو الحاضر المتغير، وهناك عديد من المشروعات الفكرية التى تقترب من هذا المفهوم المستقبلى للإصلاح الدينى إلا أنها وللأسف الشديد تعرضت للتضييق من التيار العام للثقافة الإسلامية المستند إلى الاستبداد والتخلف الاجتماعى. ثم يقترب بنا الكاتب من مشروع آخر لعالم الاجتماع الإيرانى آصف بيات الذى يؤسس لاستراتيجية داعية «لدمج التدين بثقافة الحقوق والإيمان بالحرية. تؤسس للتعددية بدلاً من الأحادية والمستقبل بدلاً من الماضى والدولة المدنية غير الدينية مع السعى لإدماج الدين فى مجمل المجال العام».
وأخيراً يلخص محمد العربى كل ما يريد أن يقول قائلاً: «وفى النهاية فإن مسألة الإصلاح الدينى هى مسألة إصلاح اجتماعى ونهضة ثقافية وتطور سياسى أشمل بكثير من مجرد الحديث عن النصوص أو الخطابات، وهى بالتالى عملية طويلة المدى وتتطلب تضحيات ربما تكون مؤلمة» (ولعله أراد بالتضحيات المؤلمة تلك الاتهامات والمحاكمات والأحكام لكنه لم يشأ الإفصاح)، ويقول فى السطر الأخير من كتابته المبدعة: «سيتطلب هذا الاختيار البدء الفعلى فى تحديد المستقبل الذى نتمناه وتحديد دور الدين فى صناعته وإطلاق طاقاته».
ويبقى أن أعتذر لمحمد العربى على الاختصار الشديد لأفكاره، وهو اختصار عانيت منه لكى لا تضيع الفكرة الأساسية، لكنه فُرض علىّ بسبب المساحة المتاحة. ويبقى أيضاً أن أتوجه له بالتحية لإيضاحه مدى الإضاءة التى تأتى من باحثى مكتبة الإسكندرية وأن أشيد بمكتبة الإسكندرية التى منحت باحثيها هذه القدرة على الإبداع والشجاعة فى تقديمه بصورة متقنة وملهمة لبناء مستقبل يستند إلى العقل الواعى والكتابة الشجاعة.
نقلا عن الوطن