بقلم: د.عبدالخالق حسين
لا شك أن تعليقات القراء ورسائلهم تشكِّل مصدراً مهماً للكتابة، ولكن مع الأسف الشديد هناك من يسيء لحرية النشر فيلجأ إلى المهاترات أو كتابة تعليقات لا علاقة لها بالمقال أصلاً، مما دفعني إلي غلق باب التعليقات على مقالاتي في موقع (الحوار المتمدن) لمدة عامين، ثم عدت للسماح لها من أجل الاستفادة من تعليقات القراء الجادين الملتزمين بأدب الحوار. كذلك أؤكد أني أحترم الآراء المخالفة لرأيي ولست ضد النقد الملتزم، إذ أعرف أن من يخوض في الشأن العام، وخاصة في المواضيع السياسية المثيرة للجدل، لا بد وأن يتعرض للنقد من الجهات التي لا تتفق معه، إذ كما يقول فولتير: (الكتابة حرب.. To hold a pen is to be at war)، ولكن لا يعني هذا، السماح لنشر البذاءات، فالحرية لها ضوابطها، ولا تسمح للقذف و التشهير ونشر الأكاذيب والشتائم. وهناك من ينشر بأسماء رمزية مثل (ملحد) أو (فاعل الخير) أو Nasha..الخ، يدافعون بشدة عن المحور (البعثي- الداعشي- السعودي)، وفي نظرهم أن كل من ينتقد هذا المحور ولا يشتم إيران والشيعة هو طائفي، الأمر الذي جعلني أن حذف تعليقاتهم على مقالاتي في الحوار المتمدن، لأنها مخالفة لشروط النشر التي وضعتها هيئة تحرير الموقع، والتي تنص: (أولاً، تنشر التعليقات الموقعة بأسماء المُعلِقات والمُعلِقين عند ذكر الاسم الثنائي أو الثلاثي فقط. ثانياً، لا تنشر التعليقات التي توقع بأسماء رمزية مثل مراقب، متابعة، محب، أو أبو س، أو أم ص ... أو عند ذكر الاسم الأول فقط، مثل هيثم , ليلى , عمار ...الخ.). لذلك فعندما حذفت بعض تعليقات (ملحد) أو (فاعل الخير)، كنت قد طبقت شروط هيئة الموقع. وربما سيعود هؤلاء تحت اسماء ثنائية أو ثلاثية وبنفس البذاءات...
اتهمني البعض بالطائفية، وهي تهمة خطيرة وشنيعة، لأني رفضت تسمية الأحزاب الشيعية ومنها حزب الله بالإرهاب. فالموضوعية تحتم على الكاتب الذي يحترم نفسه أن يكون دقيقاً في اختيار كلماته، و تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ولا يطلق الكلام على عواهنه. فمصطلح (إرهاب و إرهابي) يجب أن لا يطلق كيف ما كان وعلى أي تنظيم سياسي لمجرد أننا نختلف معه فكرياً، أو نكرهه، وإلا أحرقنا الأخضر بسعر اليابس، وهذا في صالح الإرهابيين الحقيقيين. فقد ركزتُ في مقاليّ الأخيرين أن حزب الله اللبناني ليس إرهابياً. وهذا ليس رأيي فقط، بل رأي كثير من الشخصيات العربية والعالمية، وهم ليسوا من خلفية شيعية، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، السيد عبدالحكيم عبدالناصر، نجل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي أدان قرار مجلس التعاون الخليجي ووزراء الداخلية العرب في تجريم حزب الله. وكذلك مئات الإعلاميين أدانوا هذا القرار، أنقل مقتطفاً من الإعلامي غسان بن جدو الذي كتب ما يلي:
(حزب الله لم يقطع شجرة، لم يقطع رأسا ويكبِّر، لم يهدم كنيسة أو جامع، لم يهدم متحفا، لم يفخخ سوقا، لم يفجّر المتحف والآثار، لم يسرق آبار البترول، لم يرسل انتحاريين للتفجير بين المدنيين، لم يفرض قيمه ورؤاه الحزبيه على محيطه وبيئته، لم يدمر اقتصاد بلده...إلى آخره))(1). وبالتأكيد لو كان السيد غسان بن جدو شيعياً لاتهموه بالطائفية ومعاداة العلمانية.
ونفس الكلام ينطبق على الأحزاب الشيعية في العراق أيضاً. إذ كيف يمكن اعتبار هذه الأحزاب إرهابية ومعظمها مشاركة في الحكومة ويشكلون الأكثرية المطلقة، من مجموع النواب في البرلمان؟
لقد أثار مقالي الأخير الموسوم: (هل حقاً كل الأحزاب الدينية إرهابية)(2)، غضب عدد من العلمانيين، أشير إلى واحد منهم على سبيل المثال، وهو الدكتور إسماعيل الجبوري الذي نشر تعليقاً في الحوار المتمدن جاء فيه:
((دكتور اكتب لك وبصراحة انت خيبت املي فيك وكنت اتصور انك داعية علمانية ليبرالية ولكن كتاباتك في السنوات الاخيرة اظهرت انك اصبحت داعية اسلامي طائفي بامتياز ولا علاقة لك بالعلمانية الا العناوين.)) (نفس المصدر، قسم التعليقات). ثم ذكر أسماء عدد من الكتاب العلمانيين الذين كرسوا معظم مقالاتهم ضد الأحزاب الإسلامية الشيعية، وطالبني بالسير على نهجهم وإلا (اصبحتْ كتاباتك اكثر تطرفا ورحعية وطائفية من الكتاب الاسلاميين الطائفيين انفسهم) على حد تعبيره. والجدير بالذكر أني لم أقرأ لهؤلاء السادة يوماً أي مقال أو تصريح ضد السعودية أو أي دولة راعية للإرهاب.
يريدني الأخوة سامحهم الله، أن أركب موجة الشتم والقذف وترويج الافتراءات والأكاذيب على العملية السياسية في العراق الجديد، وباسم العلمانية والتقدمية واليسارية ومحاربة الفساد...الخ. نسي هؤلاء أن الذين وضعتهم الأقدار في موقع المسؤولية بعد 2003 جاؤوا للسلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية التي اعترف بنزاهتها آلاف المراقبين الدوليين. نعم هناك تيار مدني علماني ديمقراطي يجمع أكثر من عشرين تنظيماً سياسياً، أكبرهم هو الحزب الشيوعي العراقي، ولكن ما تأثير وثقل هذا التيار في الشارع العراقي، إذ لم يستطع أن يفوز في الانتخابات الأخيرة بأكثر من ثلاثة مقاعد فقط ، ليس للشيوعي أي مقعد. يبدو أن السادة في حالة انفصام تام مع الشعب العراقي، فيصورونه كما يتمنون ويشتهون، لا كما هو في الواقع. شئنا أم أبينا، إن التيار الصدري (إسلامي)، هو الذي يمثل معدل العقل الجمعي للشعب العراقي، بدليل أن زعيم هذا التيار يستطيع أن يحرك مليون عراقي في بغداد وحدها، وينظم أكبر تظاهرة شعبية بمجرد إشارة من إصبعه، الأمر الذي يعجز عن تحقيقيه جميع الأحزاب العلمانية مجتمعة. لذلك شاهدنا أخيراً سياسيين ومثقفين علمانيين يساريين وليبراليين وحتى شيوعيين يركضون وراء السيد مقتدى الصدر، وهو رجل دين، وزعيم التيار الصدري (حزب الأحرار)، يلهثون للتقرب منه والتودد إليه، ومن بينهم السيد جاسم الحلفي، القيادي في الحزب الشيوعي العراقي، والمفكر الليبرالي الدكتور فالح عبدالجبار وغيرهما. فهل خان هؤلاء علمانيتهم و"أصبحوا اكثر تطرفا ورجعية وطائفية من الكتاب الاسلاميين الطائفيين انفسهم"؟؟؟
الحقيقة المرة التي يتجاهلها هؤلاء السادة أن العراق يمر اليوم في أخطر مرحلة في تاريخه الحديث، لذا فمن واجب المثقفين أن يقدِّروا الظروف الموضوعية في هذه المرحلة العصيبة، ويتصرفوا وفق متطلباتها، وفن الممكن وليس وفق العواطف المشبوبة والأفكار الرغبوية (wishful thinking)، إذ لا يمكن القفز على المراحل أو حرقها. لذلك فمحاربة العملية السياسية وهدمها بذريعة أن فيها إسلاميون، لا تخدم القضية العراقية ولا الديمقراطية، لأن البديل هو ليس مجيئ التيار الديمقراطي للحكم كما يحلمون، بل هو التيار البعثي- الداعشي المتوحش، المدعوم من السعودية وقطر وتركيا، ومن أشد التيارات الرجعية توحشاً في العالم... وعندها لا تلوموا إلا أنفسكم.
أنا طائفي في نظر هؤلاء لأني أدين حرب الإبادة ضد الشيعة، رغم أني أدنت بشدة الإرهاب الداعشي التكفيري على الأقليات الأخرى، فالشيعة دمهم رخيص أرخص من ماء البحر، وأي إدانة لهذه المجازر تعتبر طائفية وخيانة للعلمانية!! لم نسمع من هؤلاء العلمانيين ولا من شيخ الأزهر أية إدانة لمجزرة سبايكر في تكريت التي راح ضحيتها 1700 شاب، ولا عن قتل 500 سجين في الموصل كلهم من الشيعة، قتلوا بدم بارد على أيدي الدواعش، ولا أية إدانة للمئات من التفجيرات في المساجد والمناطق المأهولة بالسكان الشيعة.
يطالبني هؤلاء السادة باسم العلمانية، أن أركب الموجة وأسايرهم على نهجهم. لا يا سادة، أنا لا اسير مع القطيع، ولا يمكن أن أنجرف مع التيار، فالسمكة الميتة هي التي تطفو على السطح ويجرفها التيار "وعلى حس الطبل خفنْ يرجلية"... فأنا حريص على استقلالي الفكري، أكتب وفق ما يمليه عليً ضميري، أما إذا خسرت صديقاً لأني أرفض السير مع القطيع، فهذا ليس ذنبي.. إذ من الأفضل أن أخسر صديقاً، على أن أخسر ضميري وأخون وعيي. وفي هذه الحالة أقول: لكم علمانيتكم ولي علمانيتي.
قبل ستة أعوام نشرت مقالاً بعنوان: (في مواجهة الثقافة التدميرية)(3)، أرى من المفيد أن أقتبس منه ما يفيد موضوعنا الراهن.
لا شك عندي أبداً، أن ما يجري في العراق من صراعات دموية، هو نتاج الثقافة الاجتماعية السائدة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد اليوم، وهي امتداد للماضي. إذ كان العراق في أواخر العهد العثماني وأوائل الدولة العراقية الحديثة، عبارة عن خرائب وأنقاض، وشعبه منقسم إلى عشائر وفئات متناحرة في حرب دائمة فيما بينها، وصدامات مسلحة مع الحكومات المتعاقبة، إلى حد أن قال عنه الملك فيصل الأول، أن أهل العراق ليسوا بشعب بل كتلات بشرية متنافرة...، وإنه يريد تحويل هذه الكتلات إلى شعب .(4)
فمنذ تأسيس الدولة العراقية إلى سقوط النظام الملكي عام 1958، ساهمت النخب المثقفة (الإنتلجنسيا العراقية) مدفوعة بالأفكار الطوباوية، وبكل شرائحها: العلمانية، والسياسية، والدينية، بتحقير الدولة العراقية، وتحريض الشعب عليها، ووصف النظام الملكي وجميع رجالاته بالشر المطلق، وأنهم خونة عملاء الاستعمار، وأعداء الشعب، بحيث أثاروا عليه نقمة الشعب والجيش إلى أن نجحوا في إسقاطه في ثورة 14 تموز 1958، وعندها فتحوا صندوق الشر(Pandora box)، أو عش الدبابير، فانفجر الصراع الدموي بين ذات القوى السياسية التي حرضت على النظام الملكي وساهمت في إسقاطه.
وبعد سقوط العهد الملكي، وبدلاً من أن يستجيبوا لمتطلبات مرحلة الثورة 14 ويحموا منجزاتها، انشغلت القوى السياسية في صراعات دموية فيما بينها، فأراد اليساريون من قائد الثورة ورئيس الحكومة، الزعيم عبدالكريم قاسم أن يكون كاسترو العراق، ورفعوا شعارات غير مناسبة للمرحلة، استفزوا بها دول الجوار والدول الغربية في مرحلة كانت الحرب الباردة على أشدها، مما أعطى تصوراً للعالم أن الزعيم عبدالكريم قاسم مقبل على إعلان النظام الشيوعي في العراق!!
كما وطالبته قوى التيار العروبي، بإلغاء الدولة العراقية، ودمجها بالجمهورية العربية المتحدة، في وحدة اندماجية فورية "وحدة ما يغلبها غلاب!!". وأعلن الأكراد من جانبهم ثورتهم المسلحة ضد حكم قاسم لتحقيق مطالبهم في الحكم الذاتي بالكفاح السلاح وليس بالوسائل السلمية التي كانت ممكنة مع قاسم، كما اعترف بذلك السيد مسعود البارزاني فيما بعد...
واستمرت الصراعات والمؤامرات والتحريض ضد حكومة الثورة إلى أن تكللت جهودهم بانقلاب 8 شباط 1963 العسكري الدموي، الذي اغتال أنزه وأنظف وأخلص حكومة وطنية عرفها تاريخ العراق، ودفع الشعب العراقي الثمن باهظاً وإلى الآن.
وفي عهد الرئيس الراحل عبدالرحمن عارف، الرجل المسالم الذي عُرف بتسامحه وبساطته، حيث توفر في عهده هامش من الحرية والتسامح والانفتاح، ولكن مرة أخرى، أعلن جناح من اليساريين الكفاح المسلح ضد حكومته، متأثرين بالرومانسية الثورية الجيفارية، واستنساخ التجربة الكوبية. كما واتبع البعثيون نهجهم التآمري المعتاد، فتآمروا مع عدد من ضباط القصر، فتم لهم ما أرادوا في انقلابهم "الأبيض" المشؤوم في 17- 30 تموز/يوليو 1968، ليغرقوا العراق في بحر الظلمات لخمسة وثلاثين سنة أهلكوا فيها الحرث والنسل، ومازال الشعب يدفع فاتورة إسقاط ذلك النظام الجائر.
والسؤال هنا: هل تعلمت القوى السياسية الوطنية والنخب الثقافية درساً من الماضي الأليم؟ الجواب كلا وألف كلا، فإنهم مازالوا يواصلون نفس النهج التحريضي الذي اتبعوه ضد العهد الملكي، وضد العهد القاسمي، وضد العهد العارفي، فمازالوا يمارسونه اليوم وبإصرار شديد ضد الوضع الحالي لأنه ليس على مقاساتهم الطوباوية الفنطازية. وفي كل هذه المراحل، حجتهم هي ذاتها، الحرص على مصلحة الشعب والوطن. ففي العهد الملكي كان التحريض ضد عملاء الاستعمار والأحلاف العسكرية، وفي العهد القاسمي كان من أجل الشيوعية عند اليساريين، و والوحدة العربية، عند العروبيين، أما حجتهم اليوم، فهي من أجل العلمانية والديمقراطية وتحرير العراق من الهيمنة الإيرانية!! وبعبارة أخرى، إنهم يريدون للعراق ديمقراطية ناضجة كاملة من يوم ولادتها، وبمستوى علمانية وديمقراطية الدول الغربية، أي كما يقول المثل العراقي: (شاف القصر هدَّم كوخه)، فنتيجة لانبهارهم بما في الغرب من رقي في الحضارة والديمقراطية، فإنهم يريدون هدم ما عندهم من ديمقراطية وليدة، وقد نسوا أو تناسوا، أن النظام الديمقراطي قد بدأ في الغرب قبل مئات السنين بحقوق بسيطة، ثم راحوا يطورونه إلى أن صار صرحاً منيفاً.
فبعد أن حرر المجتمع الدولي بقيادة أمريكا، العراق من أسوأ نظام همجي عرفه التاريخ، توفرت فرصة ذهبية للعراقيين للاستفادة من تجاربهم الكارثية السابقة، ودعم الدولة العظمى لهم، فالمطلوب منهم أن يوحدوا صفوفهم لإعادة إعمار بلادهم، وبناء نظام ديمقراطي عصري، يوفر الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي لجميع أبناء الشعب، ولكن مرة أخرى، وبسبب النظرة الضيقة والأنانية والمصالح الفئوية والشخصية، وذهنية التدمير المهيمنة على مختلف القيادات السياسية والفكرية، انفجرت الصراعات بين مختلف القوى الفاعلة. لذلك، فالعراق الآن في مفترق الطرق، تتجاذبه أهواء القوى السياسية المتصارعة، والتي نجحت في جعل العراق دولة فاشلة غير قابلة للحكم (ungovernable).
فمن الحكمة أن نكون واقعيين في أهدافنا ومطالبنا، بأن نوازن بين الرغبات وما يمكن تحقيقه على أرض الواقع في مرحلة تاريخية معينة. ولكن مشكلتنا أن معظم المثقفين والسياسيين العراقيين لا يلتزمون بهذا المبدأ، لذلك نراهم في حالة دائمة من فشل وخيبة أمل، ولوم الحظ العاثر، والبكاء على اللبن المسكوب!!
ويا حبذا لو تفضل علينا المحرضون على العراق الجديد بتقديم البديل الأفضل والممكن عملياً عما تحقق لحد الآن. في الحقيقة ليس لديهم أي بديل، بل كل ما لديهم هو تدمير ما تحقق. فمن ألف باء السياسة أن تكون الرغبات والمطالبات واقعية وقابلة للتنفيذ، لأن السياسة فن الممكن، وليس تحقيق المعجزات، لذا من الحكمة أن نقبل بالممكن ودون أن ننسى الطموح.
كذلك من الخطأ اعتبار النظام العراقي الحالي هو إسلامي لأن فيه عدد من الأحزاب الإسلامية، فالحل ليس بهدم الموجود بل السعي لتطويره نحو الأفضل. أما الذين يصرون على سياسة (كل شيء أو لا شيء) فدائماً ينتهون بلا شيء.
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/