طالعتنا جريدة الأهرام يوم الثلاثاء 23 فبراير 2016 بمقال للأستاذ صلاح سالم عنوانه«العلاقة الملتبسة بين التنوير والإلحاد« جاء فيه مانصه:«وعلى المستوى الثالث ثمة اختزال جغرافى / حضارى للدين فى التجربة المسيحية الأوروبية التى سادت العصر الوسيط، باعتبارها الأكثر تمثيلاً لادعاءات الدين فى ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس بذاته، أو بحسب التأويلات المتوالية له فى عهديه القديم، والجديد، رؤية معرفية للكون تتسم بآفات التحديد الدقيق، والطابع المغلق.
ومن ثم كان من الطبيعى أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجديد، والقائمة على النزعة النسبية، خصوصا نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذى أنتج صراعاً حدياً بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التى تفتقد للإحكام المنهجى ناهيك عن الصدق التاريخى. ويكفى هنا أن نتبين طرفى المعركة غير المتكافئة عندما نضع إنجازات العلم الحديث التى قامت على عناق بين الرياضيات والفيزياء فى صوغ رؤيتنا الحديثة، الأكثر انضباطاً، عن الكون، فى مواجهة مقولات العلم الاستنباطى / التقليدى التى قامت على عناق بين منطق أرسطو الصورى، ورؤية الكتاب المقدس العلمية».
ولى بعض الملاحظات على الفقرة السابقة:-
أولاً : الكتاب المقدس ليس كتاباً علمياً ولكنه كتاب روحى جوهر رسالته هو العلاقة بين الله والإنسان. وثانياً : يؤكد التاريخ أن صرامة التشدد الأصولى فى كل المعتقدات لم تكن يوماً على وفاق مع وسائل العلم واكتشافاته، ودأبت الأصوليات الدينية جميعها فى كل العصور على مناوئة التيارات الفكرية والعلمية. وثالثاً : لم يحدد الكتاب المقدس مطلقاً فى أى نص من نصوصه عمر الكون, ومن ثم لم يحدث أى تصادم بين الكتاب المقدس والعلم, كما لم يحدث صراعا حديا بينهما كما ذكر الأستاذ صلاح سالم فى مقاله, حيث ذكر مانصه: «الأمر الذى أنتج صراعاً حدياً بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس» .
رابعاً: الأصولية المسيحية التى تتبنى التفسير الحرفى لبعض نصوص الكتاب المقدس هى التى اهتمت بتحديد عمر الكون, وليس الكتاب المقدس, فأول من حدد تاريخاً لخلق العالم هو رئيس الأساقفة «أوشر» رئيس أساقفة كنيسة أيرلنده الذى توصل إلى نتائجه عام 1658م وقال إن بداية خلق العالم كانت فى الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد الموافق 23 اكتوبر عام 4004 قبل الميلاد, هذا على الرغم من أن «وايكلف»وهو أحد رواد حركة الإصلاح الدينى كان قد قدم الدليل المبنى على الحفريات الجيولوجية، على أن عمر الأرض يقدر ببضع مئات الآلاف من السنين على أقل تقدير, كذلك نظرت الأصولية المسيحية إلى علم الجيولوجيا، واعتبرته إحدى أدوات الشيطان، ووسائله المدمرة. فعلاوة على ما أظهرته الجيولوجيا من خطأ تأكيد القس »أوشر«بشأن حساباته المتعلقة بعمر الأرض،فإنها أيضاً، أثبتت استحالة خلق الكون كله فى ستة أيام, وقد نبذت الأصولية، علم الجيولوجيا واعتبرته فسوقاً، ووصفته بالـ «فن الأسود»، كما أسمته بالـ «مدفعية الشيطانية»، كما أعلنت أن الجيولوجيين خونة.
خامساً: يأتى التقدم العلمى من داخل العلم ذاته، ويتسم العلم بالتراكمية، وطبيعته التراكمية والمؤقتة، تميزه تماماً عن صفات باقى المؤسسات الإنسانية العظيمة مثل المؤسسات الدينية والفلسفية والفنية، ذلك لأن الدين يقوم على أساس الوجود الأبدى والحقائق الثابتة التى لا تقبل أى إضافة أو أى نقصان من قبل الأجيال المتعاقبة، والحكمة فى الدين ليست متراكمة ولكنها قائمة منذ البداية، أما الحكم النهائى فى الأمور مثلما يجرى فى محكمة الاستئناف لا يتم فى هذا العالم بل فى الآخرة، كل هذا لا يعنى أن العلم والدين غير متوافقين من الأساس، بل يشير إلى أنهما يقعان فى ميدانين مختلفين ولا يمكن المزج بينهما.
سادساً: إلا يجب أن نخلط بين العلم والنصوص الدينية, فالعلم يبنى نظرياته على الحقائق المرئية المجردة بينما الحقائق الإيمانية تبنى على أمور ميتافيزقية, ومن ثم فإن للعلم مجاله, وللدين مجاله, ولا يجوز الخلط بينهما بأى حال من الأحوال, وأن هناك علماً واحداً عالمياً، وهذا العلم مشاكله وأشكاله عالمية، ولا يوجد ما يُسمى بالعلم الإسلامي، كما لا يوجد ما يُسمى بالعلم الهندي، ولا العلم اليهودي، ولا العلم الكونفوشيوسي، ولا العلم المسيحي، وليس سراً أن العملة الوحيدة القابلة للتداول الآن فى سوق صراع الأمم من أجل سيادتها بل ولحفاظها على آدميتها هى فقط عملة العلم وامتلاك المعرفة, والعلم العالمى الواحد يجوز تشبيهه بمبنى دائم التطور، لا تنقطع فيه أعمال التجديد، فالبناء دائماً فى اتساع، مضيفاً إلى نفسه أجزاء وملحقات كثيرة، ناقداً لنفسه، ومهدماً لنفسه أحياناً، ولذا فإنه من الخطورة بمكان تعليق الإيمان بالنصوص والموروثات الدينية بنظريات العلم المتغيرة، فمفهومنا للكون قد يتغير جذرياً مع الوقت، كما أن العلم لا يستحى من هجر نظرياته القديمة واعتناق ما هو أحدث، وحرصاً على الدين ومفاهيمه لا يجوز إرساء المسائل العقائدية ومحاولة إثبات صحتها على تلك الرمال العلمية المتقلبة والمتحركة باستمرار.
وختاماً .. نخلص من كل ما سبق أن التعارض لم يكن بين الكتاب المقدس والعلم, ولكن التعارض كان بين تفسير الأصولية المسيحية للكتاب المقدس وتعارض هذه التفاسير مع العلم الحديث, ونتمنى أن تفسح الأصوليات الدينية جميعها كل المجال للتقدم العلمى بدلاً من عرقلته, لتلحق مجتمعاتنا بركب الحداثة وقطار التقدم والتنمية.
نقلا عن الاهرام