ما أصعب أن تتحدث عن إنسان قيل عنه: “يا أبي: لقد رفعتَ رأس الرهبان، وشرَّفتَ الرجل المِصريّ، فلك مني تحية حارة! وأرجو أن أبرهن عن عمق تقديري واحترامي لك يومًا ما.”! كلمات رددها د. “حسن فؤاد” مدير الآثار العربية بعد التقائه الراهب المتوحد القَس “مينا البرموسيّ” (فيما بعد البابا “كيرلس السادس” البطريرك السادس عشَر بعد المائة في باباوات الإسكندرية) الذي احتفل المَسيحيُّون في “مِصر” بتَذكار نياحته قبل أيام قليلة.
تعود تلك الكلمات إلى عام ١٩٣٣م، حين التقى القَس “مينا المتوحد” أعرابيًّا معه رجلان حضرا إلى قلايته: أحدهما مِصريّ مدير الآثار العربية، والآخر أجنبيّ مدير “كلية اللاهوت بنيويورك”. هدفَ الرجل، القادم “مِصر”، إلى بحث أصل الرهبنة التي نشأت فيها وتاريخها، ليضع كتابًا عن الحياة الرهبانية، وتعاليم “القديس أنبا أنطونيوس” أب الرهبان وآباء برِّية “شِيهيت” التي نالت صيتًا ذائعًا في العالم بأسره. فانطلق القَس “مينا” يسرُِد حياة آباء الرهبنة، موضحًا لهما فلسفتها وطرقها، مع تعاليم آبائها، لينتهي اللقاء بكلمات الباحث الأمريكيّ: “إن ما جمعتُه من معلومات فى شهرين لهُو شيء ضئيل جدًّا بالنسبة لما عرفتُه اليوم”، وبكلمات د. “حسن فؤاد”.
وُلد “عازر” في الثامن من أغسطس عام ١٩٠٢م، في بلدة “طوخ النصارى” بالمنوفية، ثم عاش بمدينة “دمنهور” حتى انتقلت الأسرة إلى “الإسكندرية”. وما إن انتهى من دراسته الثانوية، حتى عمِل بشركة “كوكس شيبنج للملاحة”. ثم انطلق إلى “دير البَرَموس” في السابع والعشرين من يوليو عام ١٩٢٧م، ليقدم لله كل حياته؛ فصار راهبًا في الخامس والعشرين من فبراير عام ١٩٢٨م باسم الراهب “مينا”، ثم سِيم قَسًّا في ١٨/٧/١٩٣١م، ثم قمصًا، ليبدأ حياة الوَحدة بعد خمس سنوات من رهبنته. وفي عام ١٩٣٦م، انتقل الراهب القمص “مينا المتوحد” إلى الطاحونة بـ”مصر القديمة” ليعيش فيها. وفي عام ١٩٤٧م، بنى “كنيسة مار مينا بمصر القديمة” حتى ذاعت شهرته؛ لتختاره عناية السماء بابا وبطريركًا للكرازة المَرقسية في العاشر من مايو عام ١٩٥٩م. وكان انتقاله من هٰذا العالم في التاسع من مارس عام ١٩٧١م.
إننا حين نتحدث عن مبادئ الحياة، لا يمكننا أن ننسى شخصية “البابا كيرلس السادس” فقد عاش وعلَّم كثيرًا منها وصار هو نفسه نموذجًا لها؛ وأحد هٰذه المبادئ “الأمانة”، فشهد له بها رؤساؤه وكل من عاملوه. ففي عمله كان ملتزمًا يؤدي عمله بجِد وإخلاص، أمينًا في كل ما يوكل إليه حتى حظِيَ بثقة الجميع. وعندما قدم استقالته مقرِّرًا الذَّهاب إلى الدير، أرسل مدير الشركة في طلب أخيه لمناقشته في هٰذا الأمر، ووعد بمنحه عَلاوة استثنائية! ويُذكر عنه أنه وجد حافظة نقود فقدها أحد كبار القادة المسؤول عن إجراءات السفر، فرفض المكافئة الكبيرة المعروضة عليه لأجل أمانته، وكانت مئة جنيه استرلينيّ!! (الجنيه المصري وقتذاك يعادل ثلاثة جنيهات استرلينية تقريبًا).
كان أمينًا في حياته مع الله، فكان يقضِّي أوقاته في الصلوات والقراءات، مهتمًا بوصايا الله ومحبته من كل القلب. وعندما صار راهبًا، ظهرت أمانته في خدمته بالدَّير، وجميع الأعمال المُوكلة إليه، مثل إصدار مجلة “ميناء الخلاص” الدينية حيث كان يكتب ما لا يقل عن خمسين نسخة بخط يده، غير مبالٍ بالجَهد الكثير الذي يبذُِله إلى جانب الدرس والبحث. كان أمينًا في رعايته لـ”دير أنبا صموئيل المعترف” بمغاغة. وكان أمينًا في رعاية شعبه حين صار أبًا بطريركًا، يحب ويحنو ويُرشد الجميع حتى أحبه كل من عرَفه، ولتظل كلماته نورًا للعالم: “اجتهد أن تكون أمينًا في عملك”.
نقلا عن المركز الثقافى القبطي الأرثوذوكسي