فى مثل هذا اليوم 6 مارس 1911..
انعقاد المؤتمر القبطي في مدينة أسيوط
فى مثل هذا اليوم 6 من مارس 1911م انعقد "المؤتمر القبطي" في مدينة أسيوط الذي تولى رئاسته "بشرى حنا" لمناقشة مطالب الأقباط في مصر، وقد قاطع هذا المؤتمر عدد من كبار رجالات الأقباط في مصر، ورد المسلمون على هذا المؤتمر بعقد "المؤتمر المصري" في مصر الجديدة في 29 إبريل 1911م برئاسة رياض باشا. ..
حرب مؤتمرات عام 1911 بين المسلمين والأقباط
اغتيال بطرس غالي دفع بعض المسيحيين إلي عقد مؤتمر في لندن بمساعدة مجلس العموم البريطاني
08 ابريل2010..
اغتيل بطرس باشا غالي سنة 1910 علي يد إبراهيم الورداني، وعمل مثيرو الشقاق علي استغلال الحادث في تفجير الخلافات الطائفية بين المسيحيين والمسلمين، وانتهز اخنوخ الفرصة وأسس هيئة برئاسته باسم » مجتمع الإصلاح القبطي « ، وضم إليها العشرات من الشخصيات العامة القبطية، وأصدر أول بيان للهيئة يدعو إلي المساواة بين المسيحيين والمسلمين في جميع الحقوق بغير تمييز بسبب الدين . لم يكن دعاة الشقاق من المسيحيين يمثلون أغلبية فيهم، ولا استطاعوا أن ينجحوا في جذب الكثيرين إليهم وغلبت كفة العقلاء من المسيحيين الذين هاجموا أي نماء للشقاق وحذروا منه، لكن أخنوخ فانوس وقرياقس ميخائيل أنشأ في لندن مكتباً للدعاية والإعلان، واستطاعا أن يتصلا بأعضاء مجلس العموم البريطاني ويدعوا إلي عقد مؤتمر قبطي !!
وأثير أمر هذا المؤتمر بمجلس العموم البريطاني، وأخذت الصحف الإنجليزية الصادرة في مصر علي عاتقها الدعوة لعقد هذا المؤتمر، وقدم بعض الداعين للمؤتمر طلباً إلي المسئولين في مصر، وفي 25يناير1911 أعلن جورست أنه زار بنفسه عدة محافظات في صعيد مصر التي يكثر فيها المسيحيون وبحث في ظلاماتهم فوجد أن الشكاوي ليست بذات شأن يذكر، فجاء حديثه مشجعاً الداعين إلي النهوض تكثيراً للشكاوي، وبذلك فإن إعلان جورست يكون قد أشعل نار الحركة وبدأ من وقتها ضم سائر القوي التي كانت بعيدة عنهم . ثم أرسل الداعون إلي وزير خارجية بريطانيا مذكرة حدثوه فيها عن خطة التمييز الطائفي الحاصلة في مصر ضد الأقباط، فرد طالباً انتداب هيئة تقابل وكيله في مصر وترفع إليه الأمر، وما لبث أن وردت الأوامر من لندن إلي المعتمد البريطاني بالسماح بعقد المؤتمر !
وفي 6 مارس سنة 1911 انعقد المؤتمر، وحرص المؤتمرون علي تأكيد الانتماء الكامل للوحدة الوطنية، فارتفع العلم المصري فوق المبني الذي اجتمعوا فيه، وابتدئ المؤتمر بعزف السلام الخديوي، وأعلن رئيس الجلسة الافتتاح باسم الله، وفي ظل الحضرة الخديوية الفخيمة . ثم تحدث مطران أسيوط طالباً ابتداء بأن يبارك الله الحضور، وأن يحافظ المدعوون علي أحسن العلائق مع بقية إخوانهم المصريين، ثم تكلم ميخائيل فانوس المحامي عن توثيق عري المحبة بين المسيحيين والمسلمين، وقال : إن شيوع العدل والمساواة هو الخليق بتهدئة الخواطر، وطالب بمساواة جميع المصريين في احترام يوم الراحة الذي تنص عليه عقائدهم الدينية باحترامه، وبالتالي إعفاء موظفي الحكومة وطلبة المدارس المسيحيين من الاشتغال يوم الأحد . وطالب بالتعويل علي الكفاءة دون سواها في الترشيح في الوظائف العمومية للمصريين، بدون أن يكون هناك دخل لأي اعتبار آخر، وطالب بتمتع المسيحيين بجميع حقوق تعليم الأهالي القائمة به مجالس المديريات، ثم طالب ميخائيل فانوس بجعل خزينة الحكومة المصرية مصدراً للانفاق علي جميع المرافق المصرية بالسواء بدون فارق بين مورد ومورد . وكان من أهم ما طالب به المؤتمر القبطي هو تشخيص جميع العناصر المصرية في جميع مجالسها النيابية تشخصياً يضمن للجميع المدافعة عن حقوقهم والمحافظة عليها . ثم تحدث اخنوخ فانوس محاولاً أن يثبت أن إجازة الأحد أمر إلهي، وحذر من الشعور بالخطر لدي المسيحيين أن يدرس أولادهم يوم الأحد فيتعودن إهدار أوامر دينهم، وانتهي الأمر بموافقة الأغلبية علي الاكتفاء برفع التماس في هذا الشأن إلي سمو الخديو !
وفي الجلسة الثانية ذكر توفيق دوس : أن الوظائف العمومية ليست تركة عن الحكومة تقسم تبعاً للنسبة العددية، ولا هي أرض سائبة يملكها أول من يضع اليد عليها، ولكنها المراكز التي أوجدها القانون والنظار لإدارة دفة الأعمال العامة التي تقوم بها البلاد وتحفظ بها كيانها . وأضاف : أنه من المضر أن يطلب المسيحيون من وظائف الحكومة نصيباً يوازي نسبتهم العددية، فإن هذا قد يستلزم أن يتربع في المناصب العليا قوم غير أكفاء لإدارتها لا لعلة إلا لكونهم مسيحيين، لذلك فإن النسبة العددية يجب أن تمحي . وأشار إلي أنه لا يوجد في القوانين المصرية أي دليل علي تمييز طائفة علي أخري في التوظيف، بل هي صريحة في حصر شروط التوظف في الجنسية المصرية والكفاءة الشخصية، ولكن مصدر الشكوي لا يتأتي من القانون ولا من الواقع النظري ولكنه يجيء من تنفيذ القانون، فوظائف الإدارة العليا مقصورة، علي شق واحد من السكان - قاصداً المسلمين - مثل المدير والوكيل والمأمور في المديريات، والوكيل والمحافظ في المحافظات، ووظائف الجيش العليا كرتبة اللواء والأميرالاي واختتم حديثه مطالباً بتعديل هذا الوضع منوها بأن كفاءة المسيحي ككفاءة المسلم لا تقف عند حد، وكلتاهما توصل لأعلي المناصب، مشيراً إلي أنه لم يحدث التمييز في مثل هذه الوظائف إلا بعد الاحتلال البريطاني في سنة 1882 ومن وقتها أثيرت الحجج التي تبين هذا التمييز، بدعوي أن بعض هذه المناصب يدخل في اختصاصها شأن من الشئون الدينية، وأن مصر بلد إسلامي يتعين معه سيادة العنصر الإسلامي !
وبالجلسة الثالثة تحدث مرقس حنا عن تشخيص المسيحيين في المجالس النيابية تشخيصاً يضمن لهم حقوقهم، وطالب بأن تكون الأمة ممثلة حسب عدد السكان، وحسب المركز المالي والحالة الاجتماعية والمقدرة العلمية، دون أن يقترح اشتراط نسبة للمسيحيين في مقاعد المجالس النيابية . وذكر اخنوخ فانوس أن طريقة مرقس حنا تضمن الوصول إلي النتيجة المبتغاة بغير حرج علي أحد الفريقين أن ينتخب من الفريق الآخر . وقال فرنسيس غبريال قائلاً : لكل مسيحي الآن الحق أن ينتخب المسلم، ولكل مسلم الحق أن ينتخب المسيحي علي السواء، فإن خذلوا فذلك شأنهم، ولا يصح أن يكون هناك مسيحي ومسلم في الانتخابات . ثم تحدث حبيب دوس عن وضع نظام لمجالس المديريات يكفل لجميع العناصر التمتع بالتعليم الأهلي، وهو الموضوع الخاص بضريبة الـ5٪ التي تحصلها مجالس المديريات للانفاق منها علي الكتاتيب، وذكر أن الكتاتيب ودارس المعلمين ينتفع بها فريق من المصريين دون فريق . واعترض علي فكرة أن تخصص كتاتيب وأخري للمسيحيين، لكن ذلك يفرق بين أبناء الشعب الواحد ويربيهم علي العزلة، وطالب بكتاتيب عامة يدخلها المسيحي المصري واليهودي المصري والمسلم المصري، يتعلمون فيها جنباً إلي جنب بغير تمييز، ولكن إذا لم يتيسر هذا الاقتراح فلا بأس من تخصيص ما يدفعه المسيحيون لكتاتيب خاصة بهم وهو أمر نقبله مكرهين محزونين، نقبله محزوين والأسف يملأ فؤادنا لما نتوقعه من الفشل في عنصر التضامن القومي في هذا الطريق . وبالجلسة الرابعة تحدث مرقس فهمي وطالب بوجوب جعل الخزانة المصرية مصدراً للانفاق علي جميع المرافق المصرية علي السواء، وذكر أن المسيحيين لا يجهلون أنهم مصريون قبل كل شيء، واجتماعهم لا يعني أنهم يتوهمون أن الرابطة الطائفية أقوي من الرباط الوطني .
وأضاف : أن المسألة تنحصر في تقرير مبادئ اجتماعية تؤلف بها القلوب، فيثبت بيننا واجب التضامن المؤسسي علي المساواة الكاملة، والمسيحيون لا يريدون أن يكونوا في وطنهم مثل السود في بلاد الأمريكان، وقال : إن الوطنية إخلاص وتفانٍ، ويقتلها كل عداء وامتياز، يفتلها في قلب الغالب القوي قبل أن يقتلها في قلب المغلوب الضعيف، وذكر أن الجهاد في تقرير هذه المساواة هو جهاد في تربية مجموع الأمة كلها . ثم تكلم عن ميزانية الدولة، وذكر أنه لا ينبغي النظر إليها كالمال الموروث، لأن الوطن واحد والواجبات الوطنية والاجتماعية واحدة، وأنه يتعين الرقي إلي جو من الاتفاق تترك فيه النقود تحت الأقدام، لا يتحاسب عليها المواطنون ولا يتنازعون، إنما الواجب علي الحكومة أن تنظم الحقوق الشخصية للمسلمين وألا تترك المسيحيين محرومين من مثل هذا التنظيم، وأن احترام استقلال المسيحيين في شئونهم الدينية لا يصل إلي حد ترك أمورهم فوضي في هذا الشأن . وانتهي المؤتمر بالوصول إلي أن حل المشكلة لا يكون في التمييز، وإنما يكون في المزيد من الاندماج وأن التوظف يجب أن يكون حسب الكفاية، وأن التعليم المشترك أكثر فائدة فيما يتيحه للعدد الأكبر من الفرص . وأن الانتخابات بالاقتراع العام تؤدي إلي الفاعلية الأكثر في أداء الوظيفة النيابية من التمثيل النسبي، وأن الحل الأمثل لأي مسألة يكفله الاندماج الأوثق للجانبين، والمنطلق القومي في معالجة مشاكل الحياة !
ورد المسلمون علي المؤتمر القبطي بمؤتمر آخر، وفي جلسة الافتتاح في 29 أبريل سنة 1911 تحدث رياض باشا فقال إن هدف المؤتمر هو مناقشة المسائل العمومية التي تشغل الرأي العام الآن، ومنها ما يسمونه بمطالب المسيحيين لأن حالة البلاد لا تسمح بتقسيم المصالح بين أبنائها تبعاً لانقساماتها الدينية ! وشرح أحمد لطفي السيد وأحمد عبداللطيف وعبدالعزيز فهمي أن غرض المؤتمر هو النظر في التوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية التي كاد يتصدع بناؤها من جراء مؤتمر المسيحيين، ثم عرض عرضاً سريعاً لمطالب المسيحيين مستنكراً لها، ومستنكراً إرسال المبعوثين منهم إلي إنجلترا لبث الشكاوي التي لا تكشف إلا عن تعصب المسلمين علي المسيحيين في مصر . وذكر أن الشكل الذي اتخذته حركة المسيحيين مريب في ذاته مفض إلي الظن بأن المسيحيين عولوا علي أن يكونوا وحدهم أمة مستقلة، وتذرعوا بهذه المطالب حتي يصلوا بمعونة إنجلترا المسيحية إلي أن يكون لهم في مصر - وهم الأقلية الضعيفة - حق السيادة علي الأكثرية الإسلامية، وأضاف بأن هدف هذا المؤتمر هو تقدير مطالب المسيحيين بميزان العدل، وبيان النافع منها والضار، والممكن وغير الممكن !
ثم قال : إن الخطأ الفادح هو تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظاماً سياسياً إلي عنصرين دينيين : أكثرية إسلامية وأقلية مسيحية لأن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسيم الوحدة السياسية إلي أجزاء دينية . وناقش المؤتمر المصري الإسلامي مطالب المسيحيين، فبالنسبة لعطلة يوم الأحد طلب المؤتمر رفض المطلب لاستحالة تعطيل المصالح أيام الجمعة والسبت والأحد لأصحاب الديانات الثلاث، وإن تشابك الأنشطة والمصالح يوجب توحيد يوم العطلة للجميع، ويكفي المسيحيين تأخرهم في الحضور يوم الأحد . وبالنسبة لوظائف الإدارة العليا فإنه ليس في القوانين ما يمنع غير المسلم من الترقي إليها، ولكن وظائف المحافظين، فإن كان لا يشغلها الآن غير المسلم، فإن المسيحيين يشغلون وظائف أعلي منها كقضاء محكمة الاستئناف والوزراء ورؤساء الوزارات، وتفسير ذلك أن الحكام الإداريين يلزمهم كثيراً في تصريف الأمور نفوذهم الذاتي أكثر من قوة القانون .. وأن الرجل لا يتم له هذا السلطان علي محكوميه إلا إذا اعتقد الناس فيه عدم التحيز لطائفة دون طائفة وأقرب الناس إلي ذلك من الحكام هم المسلمون، لا لأنهم مسلمون، بل لأن التعصب والتميز لا يكونان من شعار أفراد الأكثرية الدينية . وأضاف : إنه إذا كانت الحكومة تخشي في التوظف للإدارة العليا من افراط التضامن بين الأقلية، فقد أثبت المؤتمر المسيحي صدق هذه النظرة وأعطاها برهاناً علي صحتها، وأن المسيحيين إذ يطالبون بتأكيد جماعتهم المسيحية في التمثيل النيابي واستغلال ضريبة الـ5٪، وبفناء مسيحيتهم في الوظائف، إنما يدلون بذلك علي تذرعهم بالذرائع للاختصاص بالسلطة، وأن ظنهم خاطئ أن الاحتلال الإنجليزي يمكن أن يرضيهم فيحمي تقاليد البلاد ومظاهر العدل والمساواة ونسبتهم العددية لا تتجاوز الـ6 . 43٪ وثرواتهم لا تتجاوز الـ10٪ . وتطرق المؤتمر لمناقشة موضوع مجالس المديريات والتعليم الأهلي، وذكر أن القانون أباح لمجالس المديريات فرض ضريبة علي الأطيان لا تتجاوز 5٪ تصرف علي المشروعات والمدارس، ويعارض المسيحيون فيما يصرف منها علي الكتاتيب، حين أنه ليس في القانون ما يمنع صبيان المسيحيين من التعلم في الكتاتيب إلا أنها تدرس القرآن، ويمكن إنشاء كتاتيب مسيحية في البلاد التي يوجد فيها عدد كاف من المسيحيين، ولا يصح تعليم القرآن والإنجيل في كتاب واحد، لأن ذلك يفسح المجال للمناقشات الدينية في أوساط لايزال يغلب عليها الجهل . . وبالنسبة للتمثيل في المجالس النيابية،
ذكر المؤتمر أن قانون الانتخابات المعمول به لا يسمح بتمثيل كل أجزاء الأمة، ولكن الأجزاء غير الممثلة هي أجزاء سياسية وليست دينية، وإذا كان المسيحيون يريدون تقليد القانون البلجيكي في تمثيل الأقليات، فإن هذا القانون ينظم تمثيل الأقليات السياسية لا الأقليات الدينية، وأن الذي يريد الإخاء الحقيقي والمساواة الكاملة لا ينبغي له أن يدعو إلي بناء كيان سياسي للأقلية الدينية، بل يجب عليه أن يمحو الفروق الدينية تماماً من الاعتبارات السياسية . وبالنسبة لطلب جعل الميزانية العامة مصدراً للانفاق علي جميع الموارد ذكر المؤتمر أن هذا حاصل بالفعل، وفي آخر الجلسات قرر المؤتمر رفض الحقوق السياسية بين الطوائف الدينية، لأن الأمة المصرية هي في مجموعها كله لا يقبل التجزئة في الحقوق السياسية، وأنه مع ما لكل طائفة دينية من الحرية المتاحة في عقيدتها، فإن للحكومة المصرية ديناً رسمياً واحداً هو الإسلام . ورفض المؤتمر أن يكون من الحقوق الدينية لطائفة ما في مصر عطلة يوم الأحد أو غيره، وتقرير الاقتصار علي يوم الجمعة كعطلة رسمية . ورفض المؤتمر تعديل قانون الانتخاب بما يجعل لكل طائفة دينية دائرة خاصة بها تأكيداً علي وجوب أن يبقي حق الانتخاب شائعاً بين كل المصريين،
كما رفض المؤتمر إعطاء كل طائفة ما تجبيه منها مجالس المديريات من ضريبة لأن المسيحيين متمتعون في التعليم بجميع أنواعه بأكثر مما يتفق مع نسبتهم العددية، كما رفض المؤتمر مطالبة المسيحيين الحكومة أن تنفق من خزينتها العمومية علي مرافقهم الطائفية . ووافق المؤتمر بالاجماع علي أن تكون الكفاءة هي قاعدة التعيين . ويبدو أن عقد المؤتمرين المسيحي والإسلامي، والشقاق الطائفي الحاصل علي إثر اغتيال بطرس باشا غالي لم يكن كل ذلك شراً خالصاً، فقد وضع في هذه الخصومة حد لسوء الظن المتبادل بين الفريقين، وكانت تنفيساً شفي النفوس وفرصة لتصفية ما بين الأخوين من خصومة وعلاجه بطريقة صحيحة . وقد بث كل منهما شكواه وعبر عما يجد، وعاتب صاحبه عتاباً وإن كان قاسياً خشناً في بعض الأحيان فقد انتهي باعتذار كل منها لصاحبه علي كل حال .. وكانت هي الميلاد الحقيقي لفكرة الوطنية المصرية !
ويبدو أنه رغم هذه الإثارة الطائفية التي حدثت وانعقاد كلا المؤتمرين القبطي والإسلامي، رغم ذلك فإن كلا من المؤتمرين رفض مبدأ التمثيل الطائفي في المجالس النيابية رفضاً صريحاً، ولكن رغم هذا الرفض أيضاً، فقد أنشئت الجمعية التشريعية بالقانون رقم 29 لسنة 1913 كجهاز استشاري للتشريع يحل محل الجمعية العمومية ومجلس شوري القوانين، وانتهزت الحكومة البريطانية هذه الفرصة للتدخل ليصدر قانون بشأن تشكيل هذه الجمعية ويقرر لأول مرة في تاريخ مصر مبدأ التمثيل الطائفي، فكانت أول مؤسسة نيابية من مؤسسات الدولة في مصر الحديثة يتقرر في تكوينها رسمياً هذا المبدأ . وكان من وضع نظام الجمعية هو اللورد كتشنر المعتمد البريطاني الذي خلف الدون جورست في مصر، وكان الحرص عند وضع نظامها علي تقرير مبدأ التمثيل الطائفي، رغم الرفض الصريح له من الرأي العام المصري . ويري زميلنا المستشار طارق البشري أن تقرير مبدأ التمثيل الطائفي، لم يكن مقصوداً به فقط تأكيد التفرقة بين المسيحيين والمسلمين وغيرهم، ولكنه كان أيضاً تقريراً لازماً لتبرير إيجاد الهيئات التشريعية ذات التكوين المختلط بالانتخاب والتعيين معاً، باعتبار أن التعيين هو الأسلوب الذي يكفل تمثيل الجماعات السياسية أو السكانية التي لا يفضي طريق الانتخاب إلي تمثيلها،
واصطناع الخلافات الطائفية أمر لازم لتأكيد سلطة الحكم الاستبدادي وتبرير وجوده، إذ يظهر هذا النوع من الحكومات بمظهر الحكم والفيصل بين جماعات شعبية متعادية أو غير متجانسة ويبرر وجوده لدي كل منها بوصف أنه الحارس لها الكفيل بسلامتها من جور الجماعات الأخري . والقول بالتمثيل الطائفي يؤدي إلي القول بأن نظام الانتخاب العام ليس من شأنه تحقيق مصالح جميع المجموعات، ومن ثم يتعين أن يعطي الحاكم سلطة التعيين في المجالس النيابية منعاً من طغيان أي مجموعة علي الأخري . .والمعروف أنه تم إعداد قانون إنشاء الجمعيات التشريعية خفية من الرأي العام الذي كان يطالب بإنشاء هيئة برلمانية ذات تكوين تمثيلي شامل واختصاص تشريعي مطلق، ولم ينشر هذا القانون قبل وضعه في الصحف لكي تدرسه وتبدي ملاحظاتها عليه، ولم يعرض علي الأمة كذلك لتبدي رأيها فيه، وظهر القانون فجأة وبعد توقيع الخديو عليه ! نصت المادة الثانية من قانون تشكيل الجمعية علي أن تؤلف من أعضاء قانونيين بحكم وظائفهم وهم النظار، وأعضاء منتخبين يبلغون 66 عضواً،
وأعضاء معينين بأشخاصهم يبلغون 17 عضواً منهم الرئيس وأحد الوكيلين يعينون علي نحو يكفل النيابة عن الأقليات والمصالح التي لم تنل نصيباً من الانتخابات . ونصت المادة الثالثة علي أن الأعضاء المعينين وهم 12 عضواً يكونون علي النحو التالي : أربعة من المسيحيين وثلاثة من عرب البدو، وتاجران وطبيبان ومهندس واحد، واثنان من رجال التربية والتعليم وواحد من المجالس البلدية . وهكذا لم تشأ السلطة الحاكمة أن تؤكد وجود أقلية واحدة في مصر وهي المسيحية، بل أضافت إليها أقلية أخري هم عرب البدو، وقد عين بالجمعية من المسيحيين قليني فهمي باشا، ومرقس سميكة بك وسينوت حنا وكامل بك صدقي، والملاحظ أن باقي المعينين لم يكن فيهم مسيحي واحد، رغم أن صفاتهم في التعيين لا توجب أن يكونوا مسلمين كالأطباء والمعلمين وغيرهم . وتقوم ثورة 1919 وتذوب كل سياسات التفرقة الطائفية أمام ما ظهر من امتزاج كامل بين المصريين - مسيحيين ومسلمين، وتكون الوفد المصري باعتباره المؤسسة السياسية الأم الحاضنة لوحدة الشعب المصري بعنصرية، وجاء تكوين الوفد في مستوياته المختلفة وفي قمة قيادته من المسيحيين والمسلمين، وعمل كقيادة للحركة الوطنية علي القضاء علي احتمالات التفرقة . ثم وضع دستور 1923 علي نحو سد أمام سياسات التفرقة ذرائع الإثارة الطائفية أو التدخل في شئون مصر الداخلية بمثل هذا المبرر، وبهذا يلاحظ أن الوحدة الوطنية وقفت من سنة 1919 ضد الاعتراف بأي تحفظ دولي في شأن الأقليات المصرية أو الوجود الطائفي فيها، وعلي إنكار صفة أي قوة أجنبية في التدخل بشأنه أو الإشارة إليه، وهكذا كانت ثورة 1919 ذات أثر حاسم في اقتراح المصريين، كما كان لقيادة هذه الثورة ممثلة في الوفد المصري دورها التاريخي الكبير في مزج المصريين جميعاً في إطار الوحدة الوطنية، وقام الوفد بهذا الدور بفضل تشكيله الوطني العام من المسيحيين والمسلمين وبفضل تشكيل قيادته منهما أيضاً وبفضل نشاطه الواعي الدءوب، كما كان للمسيحيين الذين ارتبطت جماهيرهم بالحركة الوطنية وبالوفد أثرهم الحاسم في إفساد ذرائع التفرقة الطائفية في مصر . والحقيقة أن مصرية الحركة الوطنية، لم تكن مجرد رد فعل لسياسة التفرقة، وإلا كانت نشاطاً مقصوداً به مجرد دحض تهمة طائفية، إنما كانت اتجاها يستمد أساسه الرصيد من الرغبة العامة في تكوين الجماعة السياسية تكويناً مصرياً،
ومزج الأهالي في كيان سياسي واحد، وإيجاد الضيغة الملائمة لتأكيد قوة التماسك القائمة بين الأهلية . وكان أساسها لدي المثقفين وأصحاب الاستنارة الفكرية، هو الرغبة في تكوين الجماعة السياسية علي أساس قومي يكون أكثر الصيغ ملاءمة للتطور المأمول، وكان أساسها لدي أصحاب التفكير الديني التقليدي هو تأكيد السماحة الدينية التي ينطوي عليها الإسلام أو مسيحية المسيحيين . والملاحظ من قراءة الصحف الصادرة إبان هذه الفترة أن غالب المصريين وجد نفسه في عبارة الوطنية ديننا، وبذلك كانت هذه العبارة معني ضمان الوجود المشترك وتحقيق المصالح، ولدي آخرين أساس للتحضر والتنوير وللمنطق العلمي الحديث في الحياة، ولدي غيرهم برهان علي التسامح الديني، ولدي آخرين أساس لبعث مصر وإثبات لاتصال حلقات تاريخ الشعب المصري، وتجمعت هذه الروافد جميعاً في الجماعة المصرية أو في فكر الفرد الواحد . وبدا الناس فرحين بما أنجزوا في هذا الشأن، شعب حقق ذاته وأنجز في ذلك نجاحاً وجده خليقاً بالفخر والاعتزاز . كان الوفد يصدر التعليمات إلي قواعده التنظيمية بوجوب حماية الجبهة الموحدة ضد عوامل التفرقة، كما يظن ذلك مما كتبه سعد زغلول إلي عبدالرحمن فهمي يطلب إليه أن يؤكد للأمة حقيقة الاتحاد المتين بين المسيحيين والمسلمين، كما أيضاً من تربص الصحف الوطنية والمظاهرات لأي محاولة لإثارة الشقاق ولو بالشائعات،
تربصها أن يقضي علي هذه المحاولة في مهدها . وبدأت بريطانيا تحس بالخوف، وأصبح مصدر قلقها هي الوحدة الوطنية، وأصبحت خطتها هي ضرب هذه الوحدة وعمل الإنجليز علي تفتيت هذه الوحدة بسلاحين : الأول : اصطناع الوقيعة بين المسيحيين والمسلمين، الثاني : الاحياء الحذر الهادئ المستمر للذاتية المسيحية . والمعروف أنه حين تقرر وصول لجنة ملنر إلي مصر أن استقالت وزارة محمد سعيد علي إثر مظاهرات عنيفة قامت ضدها وكان الشعار الذي تنادي به قوي الحركة الوطنية هو المقاطعة الشاملة للجنة عند وصولها، وشاء الإنجليز أن يفتتوا الاجماع الشعبي الملتف حول الوفد بإثارة الناحية الطائفية . وفي 21 نوفمبر سنة 1919 اسندت رئاسة الوزارة إلي يوسف باشا وهبة وهو من المسيحيين، وكان المتوقع أن هذه الوزارة هي التي ستستقبل لجنة ملنر، وظهر المأزق فلو سكت علي هذه الوزارة لتحقق جو الهدوء الذي يرجوه الإنجليز ضد خطة الوفد، ولو ثار الناس عليها لقيل إن السبب يرجع إلي رئيسها المسيحي الذي يرفضه المسلمون . والمعروف أن يوسف وهبة عين لأنه مسيحي، وكان الوطنيون المسيحيون يعملون في العمل السياسي بصفتهم وطنيين مصريين فقط، ولا تكن تثار مسألة الانتماء الديني مما اضطرهم أن يتشحوا بالرداء الطائفي لحظة ليواجهوا الوقيعة من الداخل . ويقف سينوت حنا ويعلن للعالم أن يوسف وهبة لا يمثل المسيحيين وأنهم منفضون من حوله مجمعون علي طلب الاستقلال التام . ولم ينقض شهر علي تعيين يوسف وهبة حتي تربص له شاب في مقهي ريش وألقي علي سيارته قنبلتين انفجرتا وأخطأتاه،
وقبض علي الفاعل واسمه عريان يوسف سعد فاعترف بارتكابه الحادث لدوافع وطنية، وكان انتماء يوسف سعد لمسيحيين مفسداً لأي محاولة لتفسير الحادث علي أساس التعصب الإسلامي !. ويبدو أن هذا الفشل الذي واجهته السياسة الإنجليزية في سعيها للتفرقة الطائفية أن يقضي بها إلي اليأس بل أخذت السياسة الإنجليزية منهجاً جديداً، فبدأت علي تأكيد الذاتية المسيحية، والوقوف في وجه الاقتراح الحاصل بين المسيحيين والمسلمين، وأخذت تحاول فتح حوار بين كل من الطائفتين والأخري، واستخدمت في ذلك كل الحذر الممكن في أمر أساسي وهو إبقاء كل من الجانبين متميزاً عن الآخر، يحاوره بصفته الدينية المتميزة، وأن يبقي بذلك الوجود المسيحي الطائفي كوجود سياسي !!