ميشيل حنا حاج
من جعبة ذكرياتي الفلسطينية - 1
ملاحظة: هذه سلسلة من المقالات عن ذكرياتي الفلسطينية،
وسأنشر بعضها بين الفترة والأخرى.
لقائي الأول بالقائد الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، كان في الثاني والعشرين من شهر حزيران عام 1967، أي بعد أيام قليلة من حصول نكسة (أو نكبة) حزيران التي أدت الى احتلال اسرائيل لسيناء ووصولها الى ضفاف قناة السويس، اضافة الى احتلالها لمرتفعات الجولان وأراضي الضفة الغربية بما فيها القدس... مدينة المقدسات المسيحية والاسلامية.
ففي تلك المرحلة، وفي ظلال الشعور بالهزيمة، بدأ ظهور رجال مسلحين في شوارع مدينة عمان التي لم تكن قد اعتادت على ظهورهم. وفي تلك المرحلة أيضا، بدأ يتصاعد الحديث عن ظهور حركة فتح التي كانت قد انطلقت الى العمل ضد اسرائيل قبل أكثر من عامين، ولكن لم نكن عندئذ نسمع الكثير عنهاحتى ذلك الوقت، اذ بدأ عندئذ الحديث العلني والصريح عن وجود حركة مقاومة فلسطينية اسمها (فتح).
ولم تكن حركة فتح في تلك المرحلة، قد نظمت أمورها بايجاد هيئات لها مهماتها المعينة والمحددة، وبالذات لدائرة الاعلام التي لم يكن لها وجود بعد. ولذا كلف الصحفي المصري (مصطفى الحسيني) (آمل أنني ما زلت أذكر اسمه بشكل صحيح)، بأن يقوم بادارة عمل الاعلام لصالح حركة فتح حديثة الولادة وغير مكتملة في تنظيم أمورها وادارتها.
وكان مصطفي الحسيني عنئذ يعمل لحساب صحيفة مصرية، وتواجد في عمان لتغطية أخبار تلك التطورات المتسارعة في المنطقة لحساب الصحيفة التي يعمل لحسابها. ولكنه كما يبدو قد كلف من أبو عمار أن يستخدم خبرته في العمل الصحفي، ليضع حركة فتح في ضوء الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب. وكنت أول اختياراته.
كنت يومئذ أعمل لحساب وكالة أنباء تلفزيونية عالمية اسمها (يو بي آي تي أن) نتجت عن اندماج القسم التلفزيوني في وكالة يونايتد برس وقسم توزيع الأخبار في قناة التلفزيون المستقل ITN . ولكن شبكة التلفزيون الأميركي سي بي أس نيوز، كانت قد طلبت مني للتو الانضمام اليها والعمل لحسابها بعد أن قدروا أن التطورات المتسارعة في المنطقة، تستدعي ايجاد ممثل دائم لهم في المنطقة. ففي هذا الظرف، اقترب مني مصطفى الحسيني ليسألني ان كنت أرغب في الالتقاء بأبو عمار.
ولم أكن قد سمعت بالاسم حتى ذلك الوقت، فسألته: "من هو أبو عمار"؟ ، فرد قائلا انه "ياسر عرفات". ولكني أطرقت مفكرا. فلم يعني الاسم لي شيئا، وكان الأمر بالنسبة لي وكأنه قد فسر الماء بالماء. وهنا سألته "ومن هو ياسر عرفات؟"، فقال لي أنه قائد حركة فتح. ألم تسمع بها. وكان قد تردد الاسم أمامي مرة أو مرتين، ولكنه لم يكن قد لصق بعد في ذهني تماما. وسألته : "يعني شخصية مهمة؟" قال طبعا. ستكون أول اعلامي يلتقي به.
ولم يبد الأمر لي هاما بالنسبة لوكالة (يو بي آي تي أن) التي أمثلها. فهي معنية بالصور وبتصوير الوقائع والأحداث. ولكنها غير معنية باجراء لقاءات وحوارات. وهنا فكرت بالسي بي أس التي كنت حديث التعامل معها. وكانت المهمة الأولى المسندة لي من قبلهم، هي الذهاب الى القاهرة فورا لتغطية حرب الاستنزاف التي بدأت بين مصر واسرائيل فيما سمي مصريا بحرب الاستنزاف. وكنت قد حجزت لنفسي مقعدا على طائرة ستغادر الى مصر في الساعة التاسعة والنصف أو العاشرة من مساء ذلك اليوم. ففكرت بأن ذاك اللقاء قد يكون هاما للسي بي أس. فطلبت منه أن يمهلني بعض الوقت لأبلغه بقراري.
وعندما اقترحت الأمر على مراسل السي بي أس المتواجد آنئذ في عمان، والذي كان اسمه (على ما أرجح) بيل ماكلوكلين، وكان يرافقه فريق تصوير كامل بطاقمه... فرحب بالأمر وطلب مني الاسراع في ترتيب اللقاء مع ياسر عرفات. فأبلغت مصطفى بالموافقة، وطلبت منه أن يرتب الأمر بأسرع ما يمكن، لكوني سأغادر عمان في تلك الليلة. فرد بالموافقة على ترتيب اللقاء في المساء.
وفي الساعة الخامسة والنصف مساء، التقينا كلنا في فندق انتركونتنانتل بعمان، وانطلقنا بسيارتين نحو موقع اللقاء الذي لم نبلغ به، وكان يتوجب علينا ان نتابع بسيارتينا السيارة التي كان بها "مصطفي الحسيني" وكانت ستقودنا الى الموقع المجهول.
وانطلق موكب السيارات متجها نحو ما تبدى لي بأنه الطريق الى مدينة السلط. ولكن قبل بلوغ المدينة، انحرفت السيارة الأولى التي يتواجد فيها مصطفى الحسيني نحو اليمين... أعتقد نحو المنطقة المسماة ب"زي". وهنا كان الظلام قد بدأ يحل، ونظرا لحالة الحرب، لم يكن بوسعنا أن نضيء انوار السيارات اضاءة كاملة، والتي كانت أصلا مطلية بلون أزرق (كما يقتضي الأمر في حالات الحروب), وكانت الطريق ضيقة جدا ومتعرجة، وكنا نسير في منطقة لا أعرفها تماما. ولكننا سرنا بحذر وببطء وراء السيارة التي تقودنا الى الكهف الذي كان أبو عمار يتواجد فيه. وداخل الكهف او المغارة الصغيرة التي جعلها أبو عمار آنئذ مركز قيادته المؤقت، رحب بنا الرجل الملتحي والبادي عليه التعب والذي قدم لنا على أنه أبو عمار. وكانت تلك هي المرة الأولى التي التقي فيها بذاك الرجل الذي قاد حركة التحرير الفلسطينية لسنوات طويلة. ولكنه لم يكن اللقاء الأخير لي معه، فقد التقيت به بعد ذلك عدة مرات وفي مناسبات متعددة. فكان هناك لقاء في بيروت، وآخر في بغداد، ورابع في تونس. وأنا أقصد اللقاءات التي أعدت لغايات اعداد لقاءات تليفزيونية مسجلة، وليس اللقاءات التي شملت نشاطه المعتاد السياسي والجماهيري، اذ تلك كانت لقاءات كثيرة ومتعددة.
وتوقعت ان يكون لديهم مولد كهربائي يمكن استخدامه لتوفير الاضاءة اللازمة لتصوير اللقاء التلفيزيوني, ولكنه لم يكن موجودا. فكان لا بد من استخدام المصابيح المضاءة باستخدام الكاز. ولحسن الحظ كان هناك منها ثلاثة أو أربعة استنفذت جميعها في اجراء اللقاء الطويل الذي استغرق قرابة الساعة. ولا أذكر الآن ما قاله ياسر عرفات يومئذ، فقد كان كل تفكيري مركزا على وجوب انهاء اللقاء بالسرعة الممكنة، كي أتمكن من العودة الى عمان وركوب تلك الطائرة الى القاهرة. وكان المصور الأجنبي - عضو الفريق ـ، يقوم بتسجيل مضمون اللقاء. وكان دوري في التقاط صور جانبية كي تستخدم في مونتاج اللقاء.
وأخيرا انتهى اللقاء، وطلبت الاذن بالمغادرة قبل الآخرين لألحق بطائرتي. فشكرني ياسر عرفات، وسألني مرة أخرى عن اسمي، فذكرته له مرة أخرى. ومع أن اللقاء كان سريعا وقصيرا، الا أن أبو عمار تذكر اسمي ولم ينسه أبدا على مدى العديد من السنين التي تلت. وفي كل مرة كنت التقيه فيها ولو بمناسبة عامة كاستعراض للأشبال الذين اكملوا مرحلة تدريبهم، أو في أي مناسبة أخرى كاحتفال فلسطيني بمناسبة ما، كان يشد على يدي ويسأني: "ازيك يا ميشيل" ، فكنت أعجب لذاكرته الرائعة التي كانت تحفظ أسماء الكثيرين ممن التقاهم، وكان يرحب بهم جميعا متذكرا أسماءهم دون حاجة لمن يذكره بتلك الأسماء الكثيرة التي خزنها في رأسه ولم ينس أيا منها.
والى لقاء قريبا في حلقة أخرى من حلقات "من جعبة ذكرياتي الفلسطينية"