بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (575)
قضيةصراع البقاء الذي تخوضه الصحافة المطبوعة أمام اجتياح الصحافة الإلكترونية -أو ما اصطلح علي تسميته الصحافة الرقمية- قضية شائكة تثير مناقشات ساخنة كلما طرحت في أية دائرة أو مجلس, سواء بين العامة أو بين المتخصصين… وتتباين الآراء بين المشاركين تبعا للمرحلة العمرية -أو تبعا لدرجة الانخراط في صناعة الصحافة أو حتي تبعا لمقدار الارتباط العاطفي بالصحافة, فهناك من يدافع بشدة عن ضرورة بقاء الصحف المطبوعة ويري أنه لا غني عنها وينبري في الحدث عن ارتباطه بورقها وأحبارها ومتعته في تقليب صفحاتها… بينما في المقابل هناك من يسخر من ذلك كله متغنيا بالصحافة الإلكترونية -الرقمية- وأدواتها التكنولوجية وقدرتها الفائقة علي نقل الخبر وتغطية الحدث فور حدوثه علاوة علي تحديثه علي مدار الساعة.
علي جانب آخر يقف الفريقان كل منهما متمسكا بموقفه وفي حوزته ما يرح توجهه علي الفريق الآخر… فأنصار الصحافة المطبوعة يزهون بأنها ماتزال مهيمنة علي الأغلبية الكاسحة من المواد الإعلانية التي تمثل مواردها شريان الحياة للصحافة, بينما يراهن أنصار الصحافة الرقمية بأن ذلك الواقع لن يدوم وحتما سوف يتهاوي أمام إبهار الإعلان الرقمي حيث الصوت والصورة والفيديو وسائر إمكانيات التكنولوجيا الرقمية التي ستحمل ذلك الإعلان إلي آفاق غير مسبوقة…. هذا علاوة علي أن أنصار الصحافة الرقمية يتفوقون في أنها متاحة للكافة دون مقابل بينما الصحافة المطبوعة تباع للقارئ نظير ثمن محدد للنسخة يلقي عليه عبئا ماديا مهما كان زهيدا.
وأخيرا لا يمكن إغفال أن المرحلة العمرية تعد عنصرا فاصلا بين الفريقين حيث يغلب علي المدافعين علي الصحافة المطبوعة المنتمين إلي المراحل العمرية المتقدمة, في مقابل سيادة المراحل العمرية المبكرة علي شرائح مستهلكي الصحافة الإلكترونية.
هذه القضية تبقي مسكوتا عنها في بلادنا ويبدو أنها لا تشغل الرأي العام كثيرا لكنها بالقطع ماثلة بقوة أمام المرتبطين بحقل الصحافة والإعلام, ومهما اختفلت التقديرات بينهم حول زمن تراجع واحتجاب الصحافة المطبوعة أمام اجتياح وسيادة الصحافة الرقمية فإن الكثيرين يسلمون بأن الأمر لا يعدو إلا أن يكون مسألة وقت وأن العقلاء من المتحكمين في مقدرات الصحافة عليهم الاستعداد لمجئ هذا اليوم الذي تودع فيه الصحيفة المطبوعة قراءها, وذلك بالاستثمار الجاد مهنيا وفنيا وبشريا وتكنولوجيا وماليا في تنمية البديل الرقمي للصحيفة حتي لا تودع الصحيفة قراءها الوداع الأخير, بل تحملهم معها إلي الآفاق الرحبة المتقدمة المتجددة للبديل الرقمي.
والحقيقة أن المتابعين لما يحدث في هذا الإطار علي المستوي العالمي وعلي الأخص في الدول التي سبقتنا -وتسبقنا في كل شئ- يعرفون بوضوح احتجاب صحف عالمية شهيرة واحدة تلو الأخري لتودع قراءها مكتفية بنسختها الإلكترونية المتاحة دون مقابل علي شبكة الإنترنت… وآخر الصحف التي انضمت إلي ذلك الطابور صحيفة الإندبندنت اليومية البريطانية العريقة بالإضافة إلي عددها الأسبوعي الذي يصدر صباح الأحد إندبندنت أون صنداي حيث أعلن مالكوها قرارهم بإيقاف الصحيفة التي استمرت نحو ثلاثين عاما في الصدور بعد تراجع توزيعها من نصف مليون نسخة يوميا في تسعينيات القرن الماضي إلي ما بين 40 و60 ألف نسخة حاليا مع التركيز علي نسختها الإلكترونية واسعة الانتشار, وكانت من التعليقات الحزينة علي ذلك القرار ما قالته رئيسة تحرير الصحيفة بأن القراء باتوا يفضلون أن يدفعوا أكثر من ضعف ثمن الصحيفة لشراء فنجان قهوة علي أن يحصلوا عليها!!.
ويقول المتصلون بدوائر الصحافة البريطانية إن الإندبندنت ليست الأولي في طابور الصحف المحتجبة ولن تكون الأخيرة, فهناك صحف أخري ذائعة الصيت مرشحة لأن تحذو حذوها نتيجة معاناتها من تدهور متزايد في أرقام التوزيع وحتي حصيلة الإعلانات, وفي ذلك المجال أوردوا أسماء صحف مثل الجارديان والتليجراف والفايننشيال تايمز… وذلك المصير يبدو أن أفضل الصحف البريطانية توزيعا لن تنجو منه إذ أن حتي الأرقام المرتفعة لتوزيعها حاليا تتضاءل نسبيا أمام الأرقام الضخمة لتوزيعها عبر السنوات الخمس الأخيرة.
أما عندنا في مصر فحتي الآن تبدو فكرة توقف واحتجاب الصحافة المطبوعة فكرة مرفوضة لدي القراء وغير مقبولة لدي المتخصصين في شئون الإعلام… هذا بالرغم من أن أحاديث أرقام التوزيع وحصيلة الإعلانات التي تدور كلها داخل الغرف المغلقة تعكس انكماشا مقلقا للمسئولين عنها والعاملين فيها علي السواء… ويبقي السؤال المسكوت عنه: كم من الوقت تبقي من عمر الصحافة المطبوعة؟… وهل هي تعد نفسها للانتقال إلي الصحافة الرقمية أم سيكون مقدرا لها أن تودع قراءها الوداع الأخير؟!!.
نقلا عن وطنى