كان الرئيس السادات دائماً يتندّر ويسخر حين يتحدث عن هيكل قائلاً: «هو ومجلس الحكماء بتاعه»!! إشارة إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام والذى كان لا يطيقه السادات، وكان يعتبره تجمعاً للأفندية الأراذل كما كان يصف المثقفين، هؤلاء الذين كُتبت نهايته عندما اعتقلهم فى سبتمبر، لكنها لم تُكتب بأيدى من كانوا فى السجن من المثقفين ولكنها كُتبت بأيدى أعداء الثقافة والفكر والذين كانوا يحملون نفس الكراهية التى كان يحملها السادات للمثقفين!! تساءلت حين سمعت خطاب الرئيس السيسى الأخير على مسرح الجلاء: هل عدم ذكره للمثقفين، وإغفال تناول قضايا حبس المفكرين والمبدعين، والإصرار على أن خطابه ليس للمثقفين، باختصار غياب الثقافة والمثقف عن الخطاب المكتوب والمرتجل، هل هو متعمد أم سقط سهواً؟!، هل ما زال الموقف بالنسبة للمثقف هو نفس موقف السادات، وهل ما زال المثقف ينتمى فى زمن السيسى لقبيلة وموضوع فى خانة الأفندية الأراذل المكلكعين بتوع الكلام المجعلص؟!، لو كان هذا المفهوم هو السائد والحاضر بقوة فى مخيلة الرئيس فهو شىء يدعو للقلق والانزعاج، وإذا كان غير موجود وسقط سهواً فلماذا السهو وقضية مطاردة وسجن المثقفين ساخنة تلقى بظلالها على المشهد البائس الذى تبوح تفاصيله كل يوم بأن عقل مصر فى خطر يقترب به سريعاً من غرفة العناية المركزة، بداية من لقطة بيضة محافظ المنيا وانتهاء بفشل خيرة و«كريمة» أبناء مصر المنتخبين فى البرلمان فى استخدام التصويت الإلكترونى، مروراً بالرياح الشمالية الغربية التى تجعل الصاروخ الإسرائيلى يعود أدراجه إلى تل أبيب، والسائح أبومايوه الزنديق الفاسق الذى لا نحتاجه، والشمس التى رفضت التعامد على المعبد، والجن الذى يشفى سرطان القولون.. إلى آخر هذا السيرك المورستانى الذى تقام فيه أكبر حفلة زار لدراويش مصر المحروسة؟!! المثقفون، يا سيادة الرئيس، ليسوا الإعلاميين. المعادلة ليست بهذه البساطة، الإعلاميون جزء فقط من كتلة المثقفين، والإعلاميون منهم المثقف ومنهم الجاهل أيضاً، والثقافة ليست برامج التوك شو التى أعرف أنك قد اختنقت من معظمها كما اختنقنا نحن أيضاً ومعك الحق فى معظم ملاحظاتك على الأداء الإعلامى لمعظمها، الثقافة شىء مختلف وأكثر شمولاً، وللمثقف الحقيقى دور داعم ومغاير، دور المثقف الذى لم يحتل حتى ولا نصف دقيقة من خطاب سيادتكم هو استعادة هذا العقل المخطوف المسلوب، إن لم تهتم بأن تجعل من قصر الثقافة منبراً لا يقل أهمية عن منبر المسجد فمعركتك فى تجديد الخطاب الدينى ستفشل فشلاً ذريعاً، وستظل مشاتل الفكر السلفى الوهابى تلقى إلينا بحصاد أشواك وحصرم الإرهاب، علامات استفهام المثقف ليست من قبيل الزن الغلس أو الرغى الفارغ أو الثرثرة المملة، إنما هى استفزاز للعقل الجمعى لهذا الوطن حتى يستيقظ وينتج ويعمل ويبدع كما تريد وكما تشير فى خطاباتك، صراخ المثقف طالباً مساحة حرية أرحب هو ليس من قبيل تمارين الحنجرة ولكنه ضرورة لكى يقتنع الطائر المحبوس فى القفص بأن الطيران ليس مرضاً مزمناً!!، عندما تصورت مخابرات عبدالناصر أن سجن الواحات هو أفضل علاج لصداع المثقفين حيث تتولى أمرهم عقارب وحيات الصحراء، لكن بعد سنوات من إذاقتهم كافة صنوف العذاب وفنون القهر اقتنع ناصر بأن نهضة مصر الثقافية لن ينهض بها الموظفون من أهل الثقة، فأفرج عنهم ليقيموا نهضة مسرح وسينما وكتب ومجلات زمن الستينات الذى ما زلنا نعيش على فتاته حتى الآن. وللذكرى والتاريخ، فى زمن عبدالناصر لم يمت الفكر الإخوانى بفعل القبضة الأمنية فقط بل كانت القبضة الثقافية، أو بالأصح المناخ الثقافى، هو الذى حاصر الإخوان وقدّم البديل فصاروا عملة غير قابلة للتداول بين شعب يشاهد أفلام شادى عبدالسلام وصلاح أبوسيف وتوفيق صالح التى تنتجها مؤسسة السينما، وجمهور يقطع تذاكر المسرح القومى ليشاهد الفرافير والقضية والسبنسة وعيلة الدوغرى، ويُلحق أولاده بمدرسة الباليه ويفتخر بأنهم خريجو الكونسرفاتوار، أنا أعرف أن المثقف شخص مزعج ولكنه مزعج لكل من يعتبر العقل جريمة والموت استقراراً.
نقلا عن الوطن