ينتظر الجميع مصادقة البرلمان الليبي المعترف به دوليا على تشكيلة الحكومة الليبية لكي توجه هذه الحكومة طلبا رسميا للأمم المتحدة بالتدخل الأجنبي لـ "مكافحة الإرهاب".
ولكن الولايات المتحدة بدأت بشن غارات على مدن ليبية، وتأجلت مصادقة البرلمان على الحكومة. وفي الوقت نفسه أكدت إيطاليا أنها وافقت على تحليق الطائرات الأمريكية بدون طيار من أراضيها لشن غارات على ليبيا.
الدول الغربية تتبادل المواقع والتصريحات لإضفاء أكبر قدر من التناقض الظاهري على خطواتها المقبلة في ليبيا بعد أن بدأت الأطراف المتصارعة في سوريا "هدنة" لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الصفوف والخطط والسيناريوهات، وخلق ممرات آمنة إما للتراجع أو الخروج بأقل الخسائر.
مشهد من الغارات الجوية الأمريكية على ليبيا
ولكن يبدو أن كل ذلك مجرد تكتيكات مؤقتة سترتبط جديتها ومصداقيتها بعامل الوقت، وبالتفسيرات اللاحقة لما تم التوصل إليه بين موسكو وواشنطن تحديدا.
تساؤلات كثيرة تدور حول خلافات بين الولايات المتحدة ودول غربية أخرى حول ليبيا وطرق مواجهة الأزمة. فالاتحاد الأوروبي ينتظر تصديق البرلمان لكي يبدو كل شيء شرعيا ومطابقا للقانون الدولي. وواشنطن ترى أنها قادرة على تحقيق تقدم بغاراتها الجوية. بينما انتقد بعض المسؤولين الأوروبيين الغارات الأمريكية باعتبارها غير مجدية، بل وتدفع لتفاقم الأزمة الليبية.
المثير أن المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر هو الذي رأى أن الغارات والقصف الجوي لا يمكنهما إعطاء نتائج ملموسة على الأرض بشأن مكافحة داعش وأخواته في ليبيا. وفي الوقت نفسه تهدد واشنطن بين الحين والآخر بأنها ستواصل القصف في حال شعرت بأي مخاطر على مصالح الولايات المتحدة في ليبيا. ومن جهة أخرى تواصل الآلتان العسكرية والإعلامية في الولايات المتحدة تصعيد الأمور حول ليبيا وتسريب معلومات حول أعداد ضخمة من المقاتلين تتوجه إلى ليبيا أو وصلت إليها بالفعل.
كل ذلك يدور وشروط الغرب كما هي: حكومة شرعية أولا، ثم طلب تدخل عسكري، ثم النظر في مسألة رفع الحظر عن تسليح الجيش الليبي. لا حديث عن تنسيق غربي – عربي إلا في حدود كيفية استخدام أي أشكال عسكرية عربية للأدوار "القذرة" أو لملمة ما سيخلفه القصف الأمريكي – الأطلسي لليبيا.
ولكن لا حديث عن دور دول الجوار الليبي الأكثر تضررا من وجود داعش وأخواته وتهريب السلاح وتحركات العناصر الإرهابية عبر الحدود. وبالتالي، فالتحركات الغربية والنشاطات المنفردة للولايات المتحدة وغيرها من الدول، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، في ليبيا، تعطي انطباعا بأن هناك نوايا غير جيدة وغير عادلة يجري تحقيقها بشتى الطرق حتى وإن كانت على حساب، ليس فقط الليبيين، بل وعلى حساب دول الجوار الليبي وضد مصالحها وأمنها.
هناك "نهم" غربي على ليبيا، ومحاولات تحويل دول شمال أفريقيا إلى محمية غربية تحت مسميات مختلفة، ولا توجد ضمانات بشأن إمكانية عمل الحكومة الليبية التي لم يتم التصديق عليها إلى الآن، لأن الغرب دق العديد من الأسافين حتى من قبل إعلان تشكيل الحكومة. وأهم هذه الأسافين أنه ضغط من أجل تولي العقيد المهدي البرغثي حقيبة وزارة الدفاع، وهو العسكري الذي انشق عن قوات حفتر. ما يؤكد نوايا الأطراف الغربية إبعاد الفريق خليفة حفتر من المشهد السياسي. وهذا بحد ذاته قنبلة موقوتة ستنفجر في شكل صدامات قبلية واسعة النطاق. أما المشاورات "السرية" التي تجريها بعض الدول الغربية مع دول الجوار الليبي (مصر وتونس والجزائر) فلا تخلو من ضغوط وخيارات صعبة وإملاءات تعرِّض أمن دول الجوار ومصالحها في ليبيا لمخاطر كثيرة.
لقد قدم عمرو موسى رؤية مهمة أثناء تواجده في موسكو في نهاية أكتوبر 2015، حيث شارك آنذاك في أعمال مجلس السياسة الخارجية الروسي. وفي حوار معه، رفض موسى مصطلح "المجتمع الدولي" الذي يرفض رفع الحظر عن تصدير السلاح إلى الجيش الليبي، وشدد على ضرورة تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية. وأكد على أن دولا غربية بعينها هي التي ترفض تسليح الجيش الليبي الذي يقوده الفريق خليفة حفتر.
المقاتلة القاذفة اف -16
ورأى أن هناك أخطاء كبيرة جدا ارتكبتها الدبلوماسية الغربية إزاء الدول العربية عموما، وفي ليبيا على وجه الخصوص. وتساءل: كيف انتقل "داعش" من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا؟ وكيف انتقل التنظيم بأفراده وأسلحته، وربما أيضا بسيارات الدفع الرباعي التابعة له؟ فأنتم – موجها حديثه لحلف الناتو والولايات المتحدة والدول الغربية - تقولون لنا لو أن ذبابة تطير في البحر المتوسط، تعرفونها، حسنا، ولكن عناصر داعش في مايو كانوا في حدود 2000 مسلح، والآن أكثر من ذلك بكثير، لكن في البداية كانوا 2000 – 3000، فكيف انتقل هذا العدد بهذه الأسلحة، ومن الذي نقلهم، وأي طائرات قامت بنقلهم، ومن الذي أنفق عليهم، ومن الذي رتب لهم في ليبيا؟ المسألة ليست داعش فقط، وإنما من وراء داعش، ومن الذي مكنه من أن يكون موجودا في ليبيا بهذه القوة، بل وتتزايد قوته، ويتواصل مع "بوكو حرام"، ومع القوى التي في مالي، والأخرى التي في شمال أفريقيا!
هناك معلومات كثيرة سربت، سواء في لقاءات الصخيرات في المغرب، أو في تلك اللقاءات الأخرى، التي لم يكن يحضرها فقط الدبلوماسيون الغربيون وإنما عناصر من الاستخبارات والاستخبارات العسكرية في الدول الغربية، وأن هناك شروطا كانت تفرض في وقت وجود المبعوث الأممي السابق برناردينو ليون مفادها المطالبة باستبعاد شخصيات محددة عن المشهد السياسي وعلى رأسها اللواء خليفة حفتر، ومن الواضح أن ليون فشل في فرض الحل الإسلامي كما يصفه بعض أعضاء البرلمان المعترف به دوليا، لأنه وضع تشكيلة غالبيتها من عناصر "الإسلام السياسي". ومع ذلك لا يزال الحل الإسلامي على ليبيا يفرض بطرق أخرى. في هذا الصدد أيضا رأي عمرو موسى أن برناردينو ليون فهم كيف تسير اللعبة، وأنه لابد من تحالف الجميع، وحاول أن يقود تيار التفاوض، وأن يكون كل شيء تحت راية الأمم المتحدة لا تحت راية أي مجموعة من الدول. ولكن ما فاته أنه في أي حل تقليدي، وطبقا للنظرية التي تؤمن بها بعض الدول الغربية، أو التي تعمل بها الدول الغربية، أنه لابد من تحالفات داخلية.
إن عمرو موسى يرى أن التحالفات الداخلية في ليبيا مختلفة عن هذه النظرية، فهم أولا قبائل ثم مناطق جغرافية ثم تحالفات أيديولوجية ثم تيارات أيديولوجية ثم مليشيات. أي أن الوضع الليبي في غاية التعقيد، وإضعاف أي جانب من هؤلاء يصب في جانب آخر ولصالح الجانب الآخر. وبالتالي، سيختل التوازن. غير أن موسى لفت الانتباه إلى أمر في غاية الأهمية، مؤكدا أن العمل ضد الفريق حفتر، هو عمل غربي، وربما أمريكي. وفي الوقت نفسه شدد على أن حفتر قوة لا يستهان بها. واعتبر أن الأمور لن تسير إلى الأمام بشكل إيجابي في ظل محاولات الغرب إخضاع هذا الجانب لذاك، وتغليب هذه القوة على تلك. ورأي ضرورة محاولة التوفيق السياسي ودعم الجيش الليبي، فليس من المنطق أن يكون هناك "داعش" ومنظمات أخرى دون أن يكون هناك كيان ليبي قوي، وهذا الكيان هو مع حفتر، لابد من الاعتراف بذلك، فالقضاء على هذه النواة التي من الممكن أن تكون كيانا ليبيا قويا لن يحل المشكلة، بل سيعقدها أكثر ويوقع ليبيا في أيدي غير أمينة.
وفي ما يتعلق بالمخاطر التي يشكلها الوضع في ليبيا على الدول الأقرب لها، والخلافات على آليات التعامل مع الأزمة الليبية ما بين القاهرة وتونس والجزائر، رأي عمرو موسى أن كل ذلك هو امتداد لأخطاء السياسات الدولية الموجودة في ليبيا، وامتداد ظلال هذه السياسات يمس الوضع في الجوار. فهناك ضرورة لدور من قبل دول الجوار، ولابد لها من أن تجلس وتتفق، لا أن تختلف. وعندما يكون هناك خلافات يجب أن تكون هناك آلية للتعامل معها يوميا. فإذا وقع خلاف بين مصر وتونس والجزائر، أو خلاف مع أو بين الدول الأفريقية، على سبيل المثال تشاد المجاورة أيضا لليبيا، فيجب أن تعمل تلك الآلية التي كان من الضروري أن تكون موجودة منذ البداية. إن دول الجوار تتمثل في الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، وبالطبع الأمم المتحدة.
كل هذه المنظمات والدول كان يجب أن تكون موجودة، ويمكن تحديد دول الجوار الليبي حسب الخريطة، هذه المجموعة تشبه إلى حد ما مجموعة "خمسة + واحد" التي تعاملت مع الملف النووي الإيراني. ومن الممكن أن تكون تلك الأطراف سبعة أو ثمانية ترأسهم الأمم المتحدة، وهم أي (الموجودون داخل المجموعة)، هم من يتكلم مع الليبيين، ويكون هناك منبر واحد، ولكن ذلك لم يحدث لا في السابق ولا الآن.
هذه رؤية أحد الدبلوماسيين العرب المخضرمين والتي لا تتناقض مع مصالح دول الجوار الليبي، بما فيها الاتحاد الأوروبي. ولكن يبدو أن الآلة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية – الأطلسية لا ترغب في التعامل مع وجهات النظر هذه. إضافة إلى محاولات إبعاد روسيا والصين بقدر الإمكان عن الكعكة الليبية، أو تقليص نصيب الشركات الروسية والصينية في ليبيا إلى أقل حد ممكن لصالح الشركات الغربية التي تواصل صب المزيد من الزيت على النار لإشعال الأوضاع من جهة، وتشحيم الآلة العسكرية الأطلسية نفسها من جهة أخرى، وإمكانية التورط في التعامل مع داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى من جهة ثالثة.