بقلم : فاطمة ناعوت | الثلاثاء ٢٣ فبراير ٢٠١٦ -
٥١:
٠٢ م +02:00 EET
فاطمة ناعوت
قبل أسبوعين، في زيارتي الأخيرة لمدينة الأقصر، قررتُ أمراً خطيراً حين دخلتُ وادي الملكات، "تا-ست-نيفيرو" حيث مدفونة جدّاتي ملكات الأسرة الثامنة عشر وما يليها من أسر حتى الأسرة العشرين.
رحت أرقب ظلالهم وهي تنسحب وتنحسر من على الأرض الصخرية لتصعد تدريجياً بوصة بوصة على الجدار المعتم ذي النقوش والرسوم الملونة التي عبرت آلاف السنين دون أن يخفت إشراقها. تركوني ومضوا بعدما وضعوا الحجر الثقيل فوق فتحة القبر. أقترب رويداً رويداً من قاع القبرِ المخيف. لا جثمان هناك، أين ذهب جسد جدتي؟ ربما سرقه اللصوص منذ مئات السنين وباعوه في سوق النخاسة الميتة، كما يبيع أجلاف داعش أجساد النساء في سوق النخاسة الحية اليوم. قررت أن أهرب من تجّار الدين إلى هنا. السجن مع أموات الجسد، أنبل وأرقى من السجن مع أموات الروح.
سأدخل لأُدفن حيّة كأنني "عايدة" الحبشية ذات الشعر الأجعد والبشرة السمراء، وأنتظر حبيبي المصري "راداميس" الفارس الوسيم الذي حكم عليه الكهنة بعقوبة الموت، عقاباً على جريمة الخيانة العظمى التي لم يرتكبها. الكهنة، في كل زمان ومكان، يوهمون الشعوب الطيبة بأنهم ظلالُ الله على الأرض، يتكلمون بلسانه ويطبّقون أوامره التي لا يسمعها سواهم، لأن بينهم وبين الله خطّا ساخناً مباشراً! والبسطاء يصدّقون!
كم من نفوس بريئة أُهدِر دمها باسم السماء، في كلّ مكانٍ وزمان، والسماء بريئة عما يصفون. كم من أمم ضُللت بأكاذيب كهنة نصبوا أنفسهم آلهة جوار الله! والبسطاء يصدّقون فيصنعون من أنفسهم أدوات وأصابعَ لألسن الكهنة، فيشهرون سيوفهم وينحرون الرقاب، ويطيّرون الرؤوس، ويهرقون الدماء، تلك التي ترفض الأرض الطيبة أن تشربها لأن عينها، كما عين السماء، ساهرة ترقبُ البشر وتتأملُ كيف يظلم الإنسان أخاه الإنسانَ، باسم الله، حاشاه.
أكتب لكم من داخل قبرٍ فرعونيّ موصَد، وصامت. أرى بعين خيالي جثامينَ مومياوات مدثّرة في أكفانها الكتّانية، وصمت لا يجرحه إلا همسُ شابٍّ لحبيبته، ينتظران، معي، موتَهما، وموتي.
بعد برهة سأسمع نغمات "ڤيردي" الأوبرالية، تعلن مقدم موكب الجنود في "نشيد النصر" من أوبرا عايدة. سأحتمي بتحضّر أجدادي من قسوة الطغاة قُطّاع الألسن مكممي الأفواه. سأعتصم بقبر جدتي من قبور الراهنين الذين يحملون أقفالا يودون وضعها على قلوبنا وعقولنا. هذا تاريخ مصر الأبهر، الذي أرهصتْ جدارياته وبردياته تلك القصةَ الموجعة التي كتبها عالم المصريات الفرسي "أوجست مارييت" ليسجل الصراعَ الأزليَّ بين الحبِّ وبين الواجب، بين الحبيبة وبين الوطن، وكذلك بين الحقّ وبين الباطل، بين العقل، وبين التغييب.
في المجتمعات المُثقلة بالجهالة، يصير كلُّ الناس كهنة وحرّاساً لأبواب السماء. يدخلون هذا الجنة، ويدفنون ذلك في قبر موصد، مثل ذاك الذي دُفن فيه راداميس، وعايدة، وأنا معهما. فشكراً للقبر الطيب الذي يحمينا من الطغاة.
لا يباري شعور الرهبة وأنت راقد في قبر أسلافك في هذا الحصن الحجري المحفور في بطن الجبل، إلا شعورك بالفخر لأنك ابن تلك الحضارة العريقة التي احترمت الإنسان وأجلّت المرأة ورحمت الحيوان وأشفقت على النبات. قبل أن أستسلم لوخزات النغم السوبرانو تخترق قلبي خارجة من حناجر أوبرالية عبقرية، مصرية وإيطالية، وقبل أن تشخصَ عيناي لتمتلآ برسومات الجدران الملكية في هذا القبر الأنيق، أهمس لله ربّ العالمين:
"يا ربيّ وربّهم، أنا لم أكذب، ولم أسرق، ولم أقتل، ولم أتسبب في دموع إنسان. أنا يا ربي لم ألوّث مياه النهر أبداً، ولم أوقف جريان ماء. أنا يا ربي لم أعذب حيوانًا ولم أقتل روحاً وإن كانت روح فراشة صغيرة. أنا لم أعذب نباتاً بأن نسيت أن أسقيه. أنا يا ربُّ لم أنشر البغضاء بين الناس، بل أشعت السلام من حولي وكتبت عن الجمال وعن حتمية شيوع قيم المحبة بين البشر. أنا يا ربي أحببتك بملء قلبي فما عاد في قلبي مكانٌ لكراهية إنسان، حتى أعدائي لم أقبض على نفسي متلبسةً بكراهيتهم. حكموا عليّ بالسجن جوار اللصوص والقتلة وخونة الأوطان وتجّار الجسد لأنني طالبتُ بالرحمة للحيوان إن قدّموه قرباناً لك، وأنت غنيٌّ عنّا وعن قرابيننا. أفزعتني نهارُ الدماء في طرقات بلادي تُهرق من أضحية عذّبوها قبل نحرها، فلم يحدّوا نصالَها كما أمرت تعاليمُك، ولم يحسنوا إليها بأن منعوها أن ترى رفيقاتها تُذبح أمام عيونها، ولم يرحموا الأطفال لئلا تشهد تعذيب مخلوقاتك العجماء تُنحر بقسوة الفاشيين وبرودة قلوب النازيين. لم يحسنوا الذبح كما أمرتنا أن نفعل، فغضبوا مني حين ناشدتُهم بحسن الذبح كما أمرتنا أن نفعل يا ربي. أشفقتُ على أضحية العيد، فجعلوا مني أضحية كل عيد. فلا هم نحروا أضحية العيد برحمة، ولا هم نحروني بشرف. ولله الأمر من قبل ومن بعد".
نقلا عن24.ae
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع