تؤكد أوساط ثقافية وسياسية عربية مختلفة أن المناهج التعليمية، وإن كانت مسؤولة جزئياً عن ظهور الإرهاب والفكر المتطرف، فإنها ليست العامل الأساس في انتشار هذه الظاهرة.
مع انتشار الصراعات الداخلية في الشرق الأوسط، أصبح الإرهاب والتطرف الديني يشغلان العالم كله، وخاصة تلك الدول، التي ترفد التنظيمات الإرهابية بالمقاتلين. وهو ما جعل الحكومات والمثقفين في الوطن العربي يبحثون عن منبع الفكر التكفيري، الذي انتشر عند فئة من الشباب. وكان المتهم في غالب الأحيان المنظومة التعليمية.
هذا الاتهام ليس جديدا، فقد ظهر منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، عندما طالبت الولايات المتحدة الأمريكية الحكومات العربية بإعادة النظر في مناهجها التعليمية الدينية، وقد استجابت بعض الدول العربية، ومنها الخليجية، حينها. وربما يكون استفحال ظاهرة إرهاب "داعش"، وتمددها شرقا وغربا، قد أعاد النظر مجددا في هيكل التعليم في الوطن العربي.
ومع ظهور عدد من الدعوات في المملكة المغربية، والتي تحذر من طريقة تدريس التربية الدينية، التي تزرع الأفكار المتطرفة وتشجع على الإرهاب في بلد انضم منه ما يقارب 1500 مقاتل إلى التنظيمات الإرهابية، وفككت أجهزته الأمنية أكثر من 150 خلية منذ 10 سنوات.
وقد استجاب العاهل المغربي محمد السادس لهذه الدعوات، وأوعز إلى الحكومة بمراجعة مناهج تدريس التربية الدينية في مختلف مستويات التعليم المغربي، وذلك بغرض تكريس التسامح والاعتدال، حسب البيان الرسمي، الذي قدم رؤية استراتيجية لإصلاح المنظومة التربوية والبحث العلمي بين سنوات 2015 و2030. وأوصى الملك المغربي بإيلاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة والوسطية والاعتدال، لخلق جيل يؤمن بالتسامح والتعايش مع مختلف الثقافات الإنسانية.
أمر تعديل أو تغيير مناهج التربية الدينية في المغرب، قد تحكمه عدة أسباب خاصة، ولا سيما أن المغرب قطع الطريق على حراك "الربيع العربي"، بعد أن أوكل الملك الحكومة إلى حزب إسلامي معتدل.
وربما يتبع المغرب نهج دول أخرى نجحت في جعل الاعتدال في الإسلام السياسي أو التعليم الديني حاجزا أمام التطرف. لكن ذلك لا يمكن عزله عن استهداف أوروبا وفرنسا تحديدا بهجمات إرهابية نفذها شباب من أصول مغاربية. ولعل فرنسا وأوروبا مارستا ضغوطا، أو دفعتا باتجاه تغيير منظومة التدريس الديني، وهو منهج اتخذه الاستعمار تاريخيا في المغرب العربي، وتجلى بوضوح في الجزائر، عندما سعت فرنسا لتغيير مناهج التعليم، حين استعمرت شمال أفريقيا لتغيير وطمس هوية شعوب المنطقة.
وكثيرا ما أعرب المثقفون في المغرب والوطن العربي عن تخوفهم من اتساع المساحة، التي يحتلها الفكر المتطرف والثقافة الدينية التكفيرية، محملين مسؤولية ذلك لفشل المنظومات التعليمية والمؤسسات الثقافية.
غير أننا إذا ما نظرنا إلى عدة أجيال درست المناهج نفسها، فإننا نجد أنها انتجت أجيالا بعيدة عن التطرف في مجملها، بل وتخرج منها طلاب علم اكتسحوا ساحات العلم في أوروبا، وأثبتوا تفوقهم؛ وبالتالي قد تكون للتطرف منابع أخرى بعيدة كل البعد عن المنظومات التعليمية.
أضف إلى ذلك أن خريطة المقاتلين الأجانب في تنظيم "داعش" وتنظيمات إرهابية أخرى ضمت عددا كبيرا ممن جاؤوا من دول أوروبية وغربية، لم يتعلموا بالطبع في منظومات تربوية عربية إسلامية، كما أن عددا كبيرا جاء من تونس، التي يتعلم أبناؤها في منظومة تربوية علمانية لا تعطي للتربية الدينية أهمية. وبالتالي، فإن أسباب التطرف الديني التكفيري تتجاوز إصلاح التعليم في المغرب أو بقية الدول العربية.
وبناء على ذلك، يجب البحث عن منابع أخرى يستقي منها هؤلاء التطرف.
فبحسب الكثير من الباحثين، هناك عوامل كثيرة متشابكة تدفع الشباب نحو الفكر التكفيري، من بينها السياسات الحكومية، سواء الغربية أو العربية، التي مارست تهميش الشباب ودفعتهم إلى الانعزال. وهو ما أنتج الفراغ والفكر المغلق والمتقبل للتطرف، كما أن انتشار وسائل الاتصال الحديثة جعلت الكثيرين يستغنون عما تعلموه في مجتمعاتهم وغاصوا في أفكار، ومناهج تتدفق عبر الانترنت دون رقيب أو حسيب، تقف وراءها جماعات مؤدلجة في الغالب، ولها مطامع سياسية، فضلا عن حقوق اقتصادية واجتماعية مسلوبة، قد تدفع بالبعض للهروب من واقعه إلى براثن التطرف.
ولا شك في وجود علاقة وثيقة بين التعليم وتكوين الوعي والعقل والفكر الجماعي للشعوب، لكنَّ هنالك أسبابا أخرى قد تهدم ما تبنيه المدرسة، وفي مقدمتها انتهاك حقوق المواطنين وتهميش الشباب واضطهادهم.
وبالتالي، فإن إصلاح الوعي وتطهيره من الأفكار الهدامة لا يتوقف على تعديلات في منظومة التربية والتدريس، بل قد يحتاج الأمر إلى إصلاح شامل يطال منظومة الحكم برمتها في المملكة المغربية والمغرب العربي والوطن العربي والأمة الإسلامية برمتها، بعد أن أصابها الركود والجمود لقرون طويلة، ويجب على الجميع الآن أن ينفضها ويجدد منابعها، ويغير مناهجها في المجالات كافة.