أعترف بأننى أشعر بسعادة حين أتحدث عن الأطباء.. إنه ذلك الشعور الذى يعتريك حين تتحدث عن أمر شخصى.. إنها الألفة حين ترتدى حذاء يلائمك تماماً وتشعر بالراحة داخله.. هل تدرك ما أعنيه؟
والحديث عن الأطباء لا يعنى أنه موجه إليهم بأى حال.. بل ربما كان العكس هو الصحيح.. فالحديث يكون موجهاً عادة إلى الجميع من غير الأطباء.. الذين أصبحوا يكيلون الاتهامات لهم دون توقف.. ودون تمييز!
ولكننى أوجه حديثى هذه المرة لشباب الأطباء أيضاً.. الذين يتابعون الموقف ولا يستطيعون تفسير الكثير من ملابساته.. والذين أفقدتهم كل تلك الاتهامات القدرة على التمييز بين الأشياء..!
سوف أحكى لكم هذه المرة عن ثلاثة من الأطباء.. كلهم قد تخرجوا فى كلية الطب.. وربما تمكن البعض منهم من الحصول على أعلى الدرجات العلمية.. ولكن الاختلاف بينهم شاسع.. كما سترى بنفسك الآن..
الأول اسمه حسين خيرى.. هو أستاذ قدير.. متمكن من مهنته.. ولكنه وعلى الرغم من مهارته قد رفض أن يمتلك عيادة خاصة.. ووهب كل حياته للطب ولطلابه.. ربما رأيته يسير فى طرقات أحد المستشفيات الجامعية بصحبة تلامذته.. أو ربما وجدته فى غفوة قصيرة فى استراحة العمليات.. ريثما تستعد الحجرة لاستقبال مريض آخر.. ليقوم بإجراء جراحة له..!
لم يتزوج لظروف تتعلق بانشغاله الدائم بعمله.. لقد رفض أن يكون هناك شريك فيه سوى طلبته ومرضاه.. لقد تم انتخابه عميداً لأكبر كلية للطب فى مصر بأغلبية ساحقة.. ودون منافس تقريباً..! وحين ترشح فى نقابة الأطباء صار نقيبهم دون منافسة تقريباً..!
والثانية اسمها منى مينا.. هى طبيبة أيضاً.. بسيطة المظهر.. هادئة الملامح.. تحمل نوراً فى وجهها ينعكس على خصلات شعرها الأبيض الذى تحب دوماً أن تعقفه خلف ظهرها فى بساطة محببة للنفس.. لقد كافحت طويلاً فى أروقة النقابة البائسة التى ننتمى إليها حتى تمكنت من إزاحة «العصابة الإخوانية» التى كانت تسيطر عليها لأكثر من عشرين عاماً.. لقد صارت أميناً عاماً للنقابة حين بدأ الأمل يغزو النفوس مرة أخرى بعد الثلاثين من يونيو.. إنها مصر نفسها فى ملامح أنثى هادئة وقور!
أما الثالث فهو أستاذ أيضاً.. متمكن وبشدة فى تخصصه.. ولكنه يمتلك ثلاث عيادات فى أماكن مختلفة.. يتحرك فيما بينها خلال اليوم.. فضلاً عن شراكته فى أحد المستشفيات الخاصة.. وتعاقده مع أكثر من جهة تأمينية يقوم بالعمل فيها..!
إنه يتقاضى مبالغ خرافية نظير إجرائه العمليات التى يتقنها بالفعل.. ولكن الأمانة العامة للمعاهد التعليمية قد أنهت تعاقدها معه منذ عدة سنوات بعد أن ثبت تقاضيه لمبالغ إضافية من المرضى بالمخالفة للقانون.. لقد صار عميداً لإحدى كليات الطب الكبرى فى مصر أيضاً- بالاختيار وليس الانتخاب طبعاً- قبل أن يقوم البعض بترشيحه ليصبح وزيراً للصحة!
الأول والثانية قد ثارا وغضبا حين تم الاعتداء على طبيبين فى استقبال أحد المستشفيات.. ووقفا ليخوضا معركة ضد البلطجة والفساد والنفوذ والرغبة فى إرضاء السلطة بأى ثمن.. وتحملا أن تُكال إليهما الاتهامات بالتآمر والتحريض والفساد.. حتى يحافظا على كرامة الطبيب.. بل وكرامة المجتمع كله أمام بطش الجهل! بينما يصرح الثالث فى ثقة بأن أكثر من ٨٠٪ من خريجى كليات الطب فى مصر -الذى يعمل أستاذاً بإحداها- لا يصلحون لممارسة المهنة!.. وكأنه لا يعرف ما حدث ويحدث لأطبائه يومياً!
يقولون إن التناقض هو ما يبرز الأشياء.. ولهذا فقد برز ما يفعله حسين خيرى ومنى مينا لمحاولة الحفاظ على كرامة الأطباء.. وبرز أيضاً تصريح سيادة الوزير الذى يدل على عدم اهتمامه بالأطباء من الأساس!!
سوف يذكر التاريخ من دافع عن أبنائه وتلامذته فى صفحاته الناصعة البياض.. وسيبقون رموزاً خالدة مشرفة على جبين هذا الوطن! بينما سيستحى أن يذكر تصريح سيادة الوزير.. فالتاريخ تكتبه المواقف.. لا تصريحات الوزراء!
سوف أظل فخوراً بالراهب والقديسة.. ولكننى سأنسى أو أتناسى سيادة الوزير.. كما سينساه الجميع!
نقلا عن الوطن