الأقباط متحدون - فاطمة ناعوت وضريبة التحليق خارج السرب
أخر تحديث ٠١:١٩ | الجمعة ٥ فبراير ٢٠١٦ | ٢٧طوبة ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٢٩ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

فاطمة ناعوت وضريبة التحليق خارج السرب

د. موسى برهومة
د. موسى برهومة

على درب المحلّقين خارج السرب، يُحكم على الشاعرة والكاتبة المصرية فاطمة ناعوت بالسجن، والغرامة المالية، بزعم مساسها بإحدى الشعائر الإسلامية، وازدرائها الأديان، وهي تهمة جاهزة لم يسلم منها كلّ من أعمل عقله، وفكّر خارج الصندوق، وحاول مساءلة المسلمّات، وهزّ اليقينيات.

الحكم بالسجن لمدة 3 سنوات أصدرته، أخيراً، إحدى المحاكم المصرية بذريعة "السخرية من إحدى الشعائر المقدسة، وهي شعيرة الأضحية التي يحتفل بها المسلمون كل عام ابتهاجًا وفرحًا بنجاة نبي الله إسماعيل ابن نبي الله إبراهيم من الذبح".

وكانت ناعوت كتبت على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، في أغسطس (آب) من العام 2014: "كل مذبحة وأنتم بخير".. ثم كتبت بعدها في مقالة لها في صحيفة "المصري اليوم" بمناسبة عيد الأضحى، في أكتوبر (تشرين أول) من العام ذاته: "بعد برهة تساق ملايين الكائنات البريئة لأهول مذبحة يرتكبها الإنسان منذ 10 قرون ونصف ويكررها وهو يبتسم".

وأضافت: "مذبحة سنوية تتكرر بسبب كابوس باغت أحد الصالحين بشأن ولده الصالح، وعلى الرغم من أنّ الكابوس مرّ بسلام على الرجل الصالح وولده وآله، إلا أنّ كائنات لا حول لها ولا قوة تدفع كل عام أرواحها وتُنحر أعناقها وتُهرق دماؤها دون جريرة ولا ذنب ثمنًا لهذا الكابوس القدسي، على الرغم من أنّ اسمها وفصيلها في شجرة الكائنات لم يُحدد على نحو التخصيص في النص، فعبارة ذبح عظيم لا تعني بالضرورة خروفًا ولا نعجة ولا جديًا ولا عنزة". وأردفت: "هي شهوة النحر والسلخ والشيّ ورائحة الضأن بشحمه ودهنه جعلت الإنسان يُلبس الشهيةَ ثوب القداسة وقدسية النص الذي لم يُقل"، مضيفة: "اهنأوا بذبائحكم أيها الجسورون الذين لا يزعجكم مرأى الدم، ولا تنتظروني على مقاصلكم، انعموا بشوائكم وثريدكم وسأكتفي أنا بصحن من سلاطة قيصر بقطع الخبز المقدّد بزيت زيتون، وأدس حفنة من المال لمن يود أن يُطعم أطفاله لحم الضأن الشهي، وكل مذبحة وأنتم طيبون وسكاكينكم مصقولة وحادة".

 ووفق الأنباء اللاحقة على هذه الكتابة، ردّت ناعوت على هجوم المنتقدين لتدوينتها، بقولها: "أنا مسلمة، لكنني لا أطيق إزهاق أي روح حتى ولو نملة صغيرة تسعى، وليحاسبني الله على ذلك فهو خالقي وهو بي أدرى".

هذه الكتابة دفعت أحد المحامين المصريين إلى تقديم بلاغ إلى النائب العام المصري، يتهمها فيه بأنّها "تزدري الدين الإسلامي وتسخر من شعيرة مقدسة من شعائر المسلمين دون اكتراث أو تقدير لمشاعرهم"، وهو ما تم على إثره استدعاء الكاتبة ومثولها أمام النيابة، ونفت ناعوت خلال التحقيقات أن يكون ما كتبته ازدراءً للدين الإسلامي، مضيفةً أنّها ترى أنّ ما كتبته لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.

وإذا شاء الباحث أن يُدرج ما قالته ناعوت في إطار حرية الرأي، فإنّ شواهد عديدة تُعينه على ذلك، أولها الرغبة المرسلة في إعادة النظر في الأحكام الشرعية، وتجديد الفقه، وضخ روح حضارية في عروق الشريعة، بحيث تكون متوائمة مع تطورات العصر، وغير متصادمة مع سنن الحضارة.

ولا أظن أنّ ناعوت قالت رأيها هذا في إطار البحث عن الشهرة، وإثارة الزوابع الإعلامية، فهي ليست في حاجة إلى ذلك، لأنّها حفرت شهرتها بأعمالها الشعرية وترجماتها وكتاباتها الأدبية والصحفية وحضورها الناشط في المشهد المصري والعربي. لكنّها مثل أي عقل تأنف من التسليم بما يمكن أن يخضع للنقاش والجدل والتأويل، رغبةً، كما قالت في إشاعة قيم التنوير.

ولم يشفع لناعوت توضيحها آراءها فيما خصّ تعبير "أهول مذبحة يرتكبها الإنسان" التي اعتذرت عنه لاحقاً، لاعتقادها أنّ "الكلمات تسببت في جرح مشاعر بعض الناس". ولم يشفع لها تأكيدها أنّها لم تقصد الإساءة إلى النبي إبراهيم أو إلى الإسلام مثلما اتهمها بعضهم، وإنّما قصدت "التحدث بأسلوب أدبي لتعبر عن حرمة الدماء"، معتبرة من اتخذ تصريحاتها على محمل الإساءة للإسلام أنّهم "ضعيفو الإيمان". وكتبت على صفحتها الشخصية على "فيسبوك" أنّ امتناعها عن ممارسة الذبح "الحلال"، لا يعني استنكارها الأضحية، أو إنكار شريعتها الربوبية، ولكن عدم مقدرة منها على اتباع تلك الشريعة. واستنكرت ناعوت الاتهامات التى وُجهت إليها بالكفر والإلحاد والتحريض على قتلها، قائلةً: "أود أن أطمئن قرّائي وأحبتي إلى أنّني مطمئنةٌ لإيماني بالله، وأعرف أنّه أدرى بي من نفسي".

ويبدو الحكم على ناعوت تقليدياً، بمعنى أنّ العواصف التي زلزلت المنطقة العربية في السنوات الخمس الأخيرة، وما تزال، لم تؤثر قيد أنملة في قلعة التفكير الديني المتزمّت التي لم تلفحها رياح التغيير، ولم تمسسها نيران التنوير، بل والحاجة إلى الخروج من منطق القلعة والصندوق المغلق المسيّج بالمحرمات والتهديد والوعيد.

لم يدرك العقل الديني المغلق الذي يحاكم كاتبة لأنّها أبدت رأيها بشعيرة دينية، أنّ "التزمت" الذي يمجّده ذلك العقل ويصدر عنه، هو المرادف العملي للتزمت الذي يحرك ترسانات الجماعات الإرهابية، وتلك التي تتلظى بزعم "الجهاد" فتزهق أرواح الآمنين بأبشع الوسائل، وتحت ذرائع دينية، واستدلالاً بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومرويّات "مقدّسة" جاءت ناعوت لتنظر فيها وتفكّكها، لا لتنسف الفكرة الدينية، بل لتعقلن النظر إليها وفيها، فالكاتبة تتحرك في نطاق الدائرة الإيمانية، ولم تعلن كفرها أو إلحادها.

 بقيت فاطمة ناعوت معتصمة بفكرة التنوير التي استقتها من معين الفكر الفلسفي الإسلامي نفسه، ونهلتها من نهر المعتزلة والمتصوفة والفارابي والرازي وابن رشد، وكذلك من روح التفكير النقدي المعاصر الذي شيّد بنيانه المرصوص كتيبة من المفكرين المغرّدين خارج السرب، وممن نال أكثرُهم ما نالته ناعوت، فمنهم من قضى نحبه بسبب اعتقاداته، ومنهم من طورد وعوقب وسجن ومات غريباً منفيّاً..

يبدو أنّنا اليوم في حاجة ﻷن نكتب نعياً أكثر من حاجتنا لكتابة بيان، كما قالت جبهة الإبداع المصرية، "فما بين حبس إسلام البحيري لاجتهاده في محاولة تجديد الخطاب الديني، للحكم على المنتجة رنا السبكي بالحبس لإنتاجها فيلمًا سينمائياً أجازته الأجهزة الرقابية بالدولة، نستيقظ اليوم على حكم جديد ينال من الكاتبة فاطمة ناعوت لرأي ذكرته في صفحتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.. فإنّ الدولة التي كنا نظن أنّنا نحيا فيها قد ماتت ونحن الآن نحيا في دولة كانت تحلم بها جماعة نجحنا في نزعها من الحكم في ٣٠ يونيو ٢٠١٣.. دولة لا تعترف إلا بالسمع والطاعة ولا تعترف بخلاف الرأي، ولا تعرف إلا التنكيل بمن يخالفها الرأي سواء بالعنف الجسدي أو بالعنف الفكري".

وأضافت "الجبهة" في بيانها: "كنا نظن أنّنا صوّتنا بـ (نعم) على دستور يحمي حرية الفكر والتعبير وحرية الاعتقاد والعقيدة ويستمد روح الشريعة الإسلامية في مواده.. تلك الشريعة التي أعطت للإنسان حتى حرية الكفر في حد ذاته (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ولكن يبدو أنّ بيننا من يظن نفسه أكثر حرصاً على حماية الدين من الدين نفسه، ومن نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام ضد وجهات النظر التي تخالف رأيه الشخصي معتقداً أنّ وجهة نظره ناموس إلهيّ".

وبسبب كثافة دعاوى الحسبة في مصر، تذكرت الجبهة قضية الدكتور نصر حامد أبوزيد، لافتة إلى أنّ "دولة الدستور والحريات التي كنا نحلم بها تنتهك يومياً تحت وطأة تلك الدعاوى". كما تذكرت الدكتور فرج فودة، قائلة "لو كان حياً كنا سنشهد نفس من يترحمون عليه يحاكمونه".

من حق فاطمة ناعوت أن تضطرب مشاعرها بعد صدور الحكم عليها، لا لخوفها من السجن، بل لشعورها بأنّ مسيرة التنوير لم تكتمل حلقاتها، وأنّ جهداً يتبدّد في رحلة الدفاع عن العقل واستقلاليته. كتبت ناعوت على صفحتها على الفيسبوك: "لست حزينة بسبب حكم الحبس ضدي سنوات ثلاثًا بسبب بوست على فيسبوك. فالكتّاب أمثالنا عائشون في سجن طوعيّ طوال أعمارهم، مسجونون بين دفّات الكتب، محبوسون بين أسوار عوالم افتراضية مع أموات من المبدعين والفنانين قضوا نحبهم قبل قرون. لست حزينة لحكم الحبس الذي صدر ضدي فقد حققتُ تقريبًا كل أحلامي في الحياة، أصدرت عشرات الكتب، وأنجبت ولدين كبرا وأصبحا شابين جميلين، السجن لا يُرعبني ما دام معي حفنة من كتب وحقول من خيال، وخلال سجني ستتاح لي فرصة أكبر للتأمل والكتابة والإبداع، ما يحزنني حقًا هو هدر قرون من التنوير وإحباط أعمال حملة مشاعل كبار أضاؤوا العالم بنورهم ودفعوا أعمارهم من أجل صالح البشرية منذ القرن الثاني عشر، وحتى الأمس القريب. ابن رشد وضربه، وحتى طه حسين وضربه، أين راح جهدهم وفكرهم؟ ما يحزنني هو ثورتان عظيمتان أخفقتا في أن تضعا مصر على طريق التنوير. ما يحزنني حقًا أن النّور الذي كنتُ أراه في نهاية النفق وأدعو قرائي أن يروه معي، غلّلته اليوم غيومٌ وضباب"..!!
نقلا عن شبكة صوت الأردنيين


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع