بقلم : وليد علاء الدين | الثلاثاء ٢ فبراير ٢٠١٦ -
١٤:
٠٢ م +02:00 EET
وليد علاء الدين
خلال ساعة من وصولي إلى شقة سامح في الشارع المتفرع من «خاتم المرسلين» كان قد وضعني في الصورة عبر موجز لأحداث اليوم؛ الخامس والعشرين من يناير 2011، التي تابعها بدقة عبر التليفزيون، بينما قضيته مسافرًا ومنهمكًا في استذكار مادة «الإحصاء في بحوث الإعلام» التي سوف أمتحنها بالفعل في السابع والعشرين من يناير 2011م في كلية الإعلام جامعة القاهرة وسط استنفار وترقب واضحين في وجوه الطلاب والأساتذة على حد سواء، ومناوشات بدا أن بعض الطلاب يختبرون بها مساحة القوة التي منحتهم إياها الثورة – كشعب- في مواجهة السلطة – وهي هنا الجامعة- فقد تكررت اعتراضات هؤلاء – بشكل لافت وغير طبيعي- وتعددت طلباتهم صغيرة كانت من قبيل الذهاب إلى الحمام، أو منع المراقبين من الودودة والهمهمة بجوارهم حتى يستطيعوا التركيز في الورقة، أو كبيرة كأحقية الطالب في شرب القهوة خلال الاختبار. كانت الجملة التي تكررت كثيرًا خلال هذه المناوشات أن «البلد ما بقتش زي الأول، وإن الشباب عرفوا طريقهم للمطالبة بحقوقهم»، حالة غريبة من محاولة جني ثمار ثورة قام بها آخرون، ولم يُعرف بعد إلى أين سوف تمضي بهم! المثير في الأمر أن أستاذ المادة الذي كان مكلفًا بمراقبة اللجنة أو إدارتها بدا حادًا فوق الطبيعي كرد فعل لمحاولات تمرد الطلاب، خاصة وقد سرت في اللجان حالة من عدم الرضا عن الاختبار الذي جاء مخالفًا لوعوده هو الشخصية بأن يكون نظريًا يختبر الفهم وليس الحفظ.
مر اليوم الذي لم يخل من عدة حالات تصاعد فيها العراك بين هذا الأستاذ وبين بعض الطلاب، واحدة من هذه الخناقات تطورت لتشبه خناقات الشوارع استخدم فيها الطالب صوتَه الجهوري ملوحًا بأنه «مستشار لوزير ذي نفوذ في دولة خليجية»! ولم ينس – بالطبع- أن يُضيف إلى ذلك أن مصر لم تعد كسابق عهدها وأن الشباب باتوا يعرفون طريقهم للمطالبة بحقوقهم، بل واغتصابها إذا لزم الأمر! المريح أن محاولاته لاستثارتنا خلال اللجنة لنقوم بما يشبه الثورة باءت كلها بالفشل، بل طالبه البعض بأن يهدأ قليلًا لأنه يتسبب لهم في التوتر ويفسد عليهم تركيزهم.
بشكل عام، كانت نسبة حضور الطلاب في اللجنة شبه طبيعية – مقارنة بآخر اختبار مثلًا قبل حوالي ستة أشهر- ولم يتخلف عن اختبار المادة كثيرون، إلا أن حالة لا أجد لها وصفًا سوى أنها كانت تشبه الحلم سيطرت على إيقاع الدقائق التي تسنى للطلاب الالتقاء خلالها –خاصة بعد الانتهاء من الاختبار، دارت عدة مناقشات معظمها حالمٌ بمستقبل أفضل لمصر، بعضها فاقد للأمل في إمكانية التغيير، منها ما يرى الأمر كله عبثيًا، ومنهم من يعتقد – كالعادة- أنها مؤامرة. أذكر أن واحدة فقط من تلك المناقشات تحولت إلى مناوشة – وإن كانت خفيفة الظل- على خلفية إن كان ما تشهده مصر «ثورة» ضد حاكم فاسد أم «هوجة شوية عيال» ضد الوالد والقائد مبارك، كان طرف النقاش الذي يرى في الثورا «شوية عيال» لا يعرفون قدر صاحب الضربة الجوية، زميلة قالوا فيما بعد إنها تعبت كثيرًا إلى أن التحقت بالعمل كمذيعة من خلال وساطات الحزب الوطني، لذلك فإنها ترى الأمر من زاوية «جات الحزينة تفرح ما لقيتلهاش مطرح».
غادرتُ جامعة القاهرة، صعدت سلم المترو وأنا أشعر أن الهواء غير الهواء وأن الناس غير الناس، حالة غريبة من القلق والترقب كانت تتملكني، أشعر أنني أعيش لحظات تاريخية فارقة، قفزتْ إلى ذهني حكاياتُ أبي –رحمه الله- عن حادثة المنشية حين تم إطلاق النار على الرئيس جمال عبدالناصر سنة 1954م، لم يكن عمره وقتها يتجاوز السادسة عشر، وكذلك حكاياته عن خروج الجماهير رفضًا لتنحي ناصر بعد هزيمة 1967م وكان قد ناهز الثلاثين من عمره، لم يدَّع –رحمه الله- أنه كان ضالعًا أو شريكًا في أي من الحدثين، كان مثلي الآن أحد الجماهير، لكنني كنت أنظر إليه بانبهار شديد، هذا رجل مر في حياته بلحظات وطنية كبرى، عاش تحت حكم ملك شاهد بعد ذلك سقوطه ورحيله، وشهد ثورة 1952، استمع إلى خطابات ناصر وألهبت حواسه، وكان من حظه أن يكون في الأسكندرية لحظة وقوع حادثة المنشية، شهد تأميم قناة السويس سنة 1956م، وعاش لحظات دفاع الوطن عن مقدرات أبنائه ضد العدوان الثلاثي الذي أعقب تأميم القناة، وشهد هزيمة وطنه وانكسر مع الناس بعد هزيمة 1967م وخرج مع الناس رفضًا لتنحي ناصر، كل هذا وهو لم يكمل عامه الثلاثين، وعاش حلم الوطن بالنصر إلى أن تحقق في أكتوبر 1973م... وكان وقت النصر قد تزوج وصار أبًا لولد وينتظر الآخر (كاتب المقال)، كنت أستمع إليه منبهرًا، واشعر أنه رجل عاش مائة عمر كأعمارنا. في هذه اللحظة وأنا أصعد سلم المترو كنت قد فقت أبي عمرًا وقت نصر أكتوبر، ولم أعرف في حياتي سوى رئيس قتلوه -وأنا ابن التاسعة- ورئيس لم يجذبني في أي خطاب له، ولم ينجح في ربطي به منذ أن تفتق وعيي إلى أن قررت أن أترك له البلد بفسادها بحثًا عن بلد آخر يحترم الإنسان ويقدر جهده ويكافئ تميزه. هل بالفعل كان الهواء غير الهواء، أم أن بحثي فيه عن لحظة تاريخية أستطيع أن أدعي أنني عشتها كان السبب في ذلك؟ لا أعرف، قطعت تذكرة المترو ووضعت نفسي داخل القطار المتجه إلى وسط البلد، كان فضولي يدفعني للوصول إلى ميدان التحرير، وكنت أحدث نفسي: ها قد أنهيت اختبار المادة التي حضرتُ من غربتي لأجلها، وآن لي أن أطل ولو إطلالة صغيرة على مطبخ صناعة اللحظة التاريخية الفارقة، علّني أعود بما أحكيه لأبنائي عن مصر الجديدة التي حضرت لحظة ميلادها.
في المترو كانت أحداث التحرير محور أحاديث الركاب، لا أنسى أبدًا هذا الرجل المبتهج الذي راح يشرح للناس بحماس تفاصيل تطور المناوشات بين الشرطة والمتظاهرين. بقطعتين من الشاش تعلوان رأسه شبه الحليق حكى لنا عن «كوردون» العساكر الذي كان يطوق أحد الحشود في الميدان، وكيف كان الضابط المسؤول يمارس عنجهيته على المتظاهرين محاولًا إقناعهم بلا جدوى هذه التظاهرات، ويهدد ويتوعد ويتطاول عليهم محتميًا بعساكره. لم يكن الضابط في فورة حماسته منتبهًا إلى أن حركة الزحام قد غيرت معادلة القوة، وصار منفردًا من دون جنود بين أيدي المتظاهرين الذين كان منذ دقائق يكيل لهم السباب. زادت ابتسامة الرجل وهو يحاول أن ينقل لنا كيف احمر وجه الضابط قبل أن يتحول إلى اللون الأزرق والبنفسجي بعد أن أٌسقط في يده ولم يعد قادرًا على النطق بكلمة واحدة، قال الرجل: لن تصدقوا من الذي أنقذه من بين أيدي الناس بعد تحمس بعض الشباب واختطفوا منه سلاحه وراحوا يعابثونه. ابتسم الرجل وكأنه يستعيد ذكريات فرح ابنته البكرية وقال: أنقذته امرأة كان قد سبها منذ دقائق عندما خاطبته «يا بني» وقال لها «أنا مايشرفنيش أكون ابنك، لو عندك ابن روحي اخدميه وخدي بالك منه». صرخت هذه السيدة في الشباب وأبعدتهم عنه بل وأمرتهم بإعادة السلاح إليه، وأقسم الرجل أنه رأى الضابط بأم عينه وهو يستخدم سلاحه هذا بعد ذلك في تفريق المتظاهرين! قبل أن يؤكد أن كل الموجودين في الميدان «ولاد ناس» ولم تكن لديهم نية للسوء، بل إنهم كانوا يخاطبون العساكر قائلين: «حالك زي حالنا فبلاش تكون علينا، لو مش قادر تكون معانا». كان حماس الرجل يتزايد، أشار إلى قطعتي الشاش في رأسه وقال إنهما من أثر اعتداءات جنود الأمن المركزي الذين فاجأوا المتظاهرين منتصف ليلة أمس (السادس والعشرين من يناير).
رغم جراحه، بدا سعيدًا وهو يصف كيف أنهم صمدوا وناوروا وعرفوا كيف يديرون المعركة، ويتعاملون مع الغازات المسيلة للدموع، قال: كنا نتفرق في الشوارع الفرعية ثم نعود مرة أخرى وكأننا متفقون على ذلك، تحولت نظرته إلى الأسف وهو يقول أن هناك عددًا من المصابين وأن الشرطة نجحت في القبض على عدد من المتظاهرين، ولكنه أعرب عن سعادته بأنه أفلح في الهروب مؤقتًا وذهب إلى منزله وتحمَّم وغيّر ملابسه وبات أكثر استعدادًا لمواصلة الثورة، وهو في طريقه الآن مرة أخرى إلى الميدان. في هذه الأثناء كان المترو قد بدأ في تخفيض سرعته بشكل ملحوظ، سرت همهمات بين الناس كشفت عن قلق وترقب، قال البعض إن هناك عصابات منظمة مهمتها بث الرعب بين الناس، إنهم يقطعون الطرق ويوقفون المواصلات. حكت سيدة بدت من منطقة شعبية عن القصص التي سمعتها عن هؤلاء اللصوص وكيف أنهم لا يكتفون بالسرقة بل يتعمدون ترك جثة أو جريح إمعانًا في الرعب. سألها أحد الركاب وهو رجل في الثلاثينات من عمره إن كانت تعرف أحدًا تعرض لهذا الهجوم، وعندما أجابت بالنفي قال وفي صوته نبرة نصر: «لو حرامية ميروحوش الأماكن الشعبية يسرقوا الغلابة، دول بيخوفوهم عشان كل واحد يلم عياله والشوارع تفضى». سرت عدة همهمات بعضها ناقش الفكرة، وبعضها أضاف أبعادًا إليها، وآخرون توقعوا أن يكون السبب –ببساطة- إغلاق الشوارع إلى وسط البلد، كان المترو قد أخذ في التحرك مرة أخرى ولكن ببطء شديد، لمحنا في السماء دخانًا كثيفًا يتصاعد في طبقات سوداء يجلبه الهواء من خلف المباني المحاذية ليسار، قال بعض العليمين بجغرافيا المكان إنه حريق في أحد أقسام الشرطة، لم أعد أذكر اسمه، رددت الألسن قصص اعتداءات حدثت على أقسام شرطة وحرقها، لم أسمع صوتًا واحدًا يؤيد ذلك، بل كانوا يرون في الأمر فعلًا مريبًا لا يتسق وتصورهم عن ثورة الناس الغلابة التي قامت من أجل رفع ظلم الحكومة عن رقابهم بعد أن باتوا غير قادرين على تحمل المزيد. كان علينا أن نهبط في المحطة التالية، فقد بات في حكم المؤكد أن محطات المترو المؤدية إلى وسط البلد قد تم إغلاقها، وعلى كل راكب أن يدبر حاله للوصول إلى الجهة التي يريد. كان على أن أتدبر أمر العودة إلى شارع «خاتم المرسلين» حيث ينتظرني سامح الذي كانت لي معه مغامرة أخرى في الوصول إلى ميدان التحرير واختراق كمائن الحماية الشعبية التي انتشرت في مداخل ومخارج شوارع المدينة.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع