رغم أنهم لم يدعوا إليها، بل استهجنوا هذه الدعوة وقالوا «لا نعرف صاحبها»، ولم يشاركوا فيها إلا متأخرين، ثم كانوا أول من غادروها وتآمروا عليها وخانوها، فإن جماعة الإخوان تصر على أن تقدم نفسها باعتبارها صاحبة ثورة 25 يناير العظيمة، وها هى تستغل الذكرى الخامسة لها لتتخذ منها ستارا يخفى مساعيها الحقيقية للعودة إلى السلطة، بأى ثمن، حتى لو كان جثة كل الثوار، وكل شباب مصر من غير المنتمين للجماعة.
لقد كتبت مقالا فى «المصرى اليوم» يوم 5/4/2011، أى بعد رحيل مبارك بأقل من شهرين، وبعد استفتاء الغدر على تعديلات الدستور أو ما سميت «غزوة الصناديق» بسبعة عشر يوما، كان عنوانه «الإخوان وغزوة أحد» تحدثت فيه عن انصراف الإخوان عن الثورة، وتآمرهم عليها، وفتحهم الباب لسرقتها، وتوقعت فيه كل ما جرى لهم فيما بعد. واليوم وفى ذكرى الثورة ها هم لا يستحون، يعودون ليتاجروا بالثورة من جديد، بعد أن تنكروا لطليعتها المدنية، ومطالبها الوطنية، ويتحدثون بعبارات ثورية، مع أنهم جماعة محافظة، مشروعها الفكرى من أساسه، يعيد إنتاج الماضى، ولا يتقدم إلى المستقبل، يرفض أن تكون السيادة للشعب ويؤمن بالحاكمية، ويعادى الطريق المدنى ويتحالف مع الجماعات المتسلفة، ويرفض قيم التحدث والحداثة، وهذا كله يطرح السؤال: «كيف يكون ثوريا من يؤمن بأفكار لا تدعو للتطور؟ وكيف يكون ثوريا من ظل طيلة حياته يتحدث عن التدرج البطئ الممل؟».
ومع أن الثورة كانت سلمية، ونادى شبابها فى الشوارع وهم يواجهون قوات الأمن «سلمية.. سلمية» فإن الإخوان ينخرطون فى العنف والإرهاب، بعد تحالفهم الوثيق مع الجماعات والتنظيمات الإرهابية المحلية والإقليمية، ولعبهم دور حصان طروادة لمشروعات خارجية تستهدف أمن مصر وتماسكها الاجتماعى. وبذا يخون الإخوان الثورة مرة أخرى بحرفها عن وسائلها، بعد أن حرفوها عن أهدافها حين استغلوها فى حيازة السلطة، وتنكروا لطليعتها المدنية وشوهوها، وتواطأوا على التنكيل بها من قبل الذين حكموا مصر بعد مبارك مباشرة.
وهذا ليس بجديد على الإخوان، فهم طيلة تاريخهم كانوا على موعد مع خيانات متلاحقة ضد إرادة الشعب المصرى فى التغيير إلى الأفضل، فمؤسس الجماعة حسن البنا، وقف مع الملك فاروق ضد الحكومة غير مرة، وتعامل مع إسماعيل صدقى، رئيس الوزراء وأيد موقفه ضد حزب الوفد، الممثل السياسى الحقيقى للأمة المصرية، فحصل البنا بمقتضى هذا على إعانة من وزارة التربية والتعليم عام 1946 مكنت الجماعة من بناء مدارس والحصول على كتب وقرطاسية مجانية، كما قامت الوزارة بدفع النفقات التعليمية والإدارية لهذه المدارس، وفتحت فروعا للإخوان فى كافة المحافظات المصرية، بهدف التضييق على الوفد وتصفية مكتسبات ثورة 1919.
وحكى أحمد حسين، زعيم مصر الفتاة فى مرافعته القضائية عن أحد المتهمين فى قضية مقتل رئيس وزراء مصر محمود فهمى النقراشى 1949، أن حامد جودة الوزير السعدى، فى حكومة حسين سرى 1941، قد حضر إلى المعتقل الذى حل فيه البنا وبعض الإخوان، واجتمع به لساعات، وبعدها أُفرج عنه وأتباعه، وتُرك بقية المعتقلين من الاتجاهات السياسية الأخرى، وذلك بغية مساندة الإخوان للسعديين، مقابل أن يتركوا له حرية الحركة والدعوة والانتشار، وغضت الحكومة الطرف عن مخالفة البنا للقانون فى إنشائه نظام الجوالة، كما كانت المؤسسات الاجتماعية للإخوان كالمستشفيات والمدارس وجمعيات البر تنشأ تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية، التى كانت تمنحها الإعانات أيضا، كما تمنح شعبة الإخوان الخمسمائة بعض المساعدات، خاصة عبر مجالس المديريات والبلديات.
وعقب ثورة يوليو 1952 نسق جمال عبدالناصر مع الإخوان فى السيطرة على المجتمع، وأغروه بأنهم البديل الاجتماعى للأحزاب السياسية ولذا أقدم على حلها مطمئنا، فأجهضت تجربة ديمقراطية مصرية عريقة، لكنه سرعان ما اصطدم بهم حين تصرفوا على أن الضباط الأحرار مجرد مجموعة عسكرية فى الواجهة عليها أن تنفذ مشروع الإخوان وتمتثل له، وتسلم مقاليد الأمور فى البلاد تدريجيا لقيادات إخوانية.
وحين أراد السادات محاصرة اليسار الذى اشتد عوده فى زمن عبدالناصر وظف التيار الدينى المسيس فى تحقيق هذا الهدف، وفتح له باب الجامعات والمؤسسات والنقابات ليتمدد فيها وهو فى مأمن من أى نقد أو تخوف من هذا المسلك الخطر، فما كان منه إلا أن استفحل، وملك زمام المبادرة، ولم يعد طوع بنان السادات نفسه، بل اصطدم به ثم اغتاله فى نهاية المطاف. وأدى تحالف الإخوان مع السادات إلى انهيار مكتسبات العدل الاجتماعى للقاعدة العريضة من المصريين بعد ثورة يوليو.
وتحالف الإخوان مع نظام مبارك، فأطالوا عمره على حساب رغبة شعبية حقيقية فى التغيير، حيث أبرموا اتفاقات وتفاهمات أمنية استغلوها فى التمدد الاجتماعى نحو تمكين لمشروعهم الذى لا علاقة له بمشروع الثورة التى يزعمون انتماء إليها، وبالتالى ها هم يلعبون من جديد دور المعوق لتطور مصر نحو دولة وطنية مدنية حديثة بشكل حقيقى وقاطع.
وفى أوائل أكتوبر 2010 قالت مجلة «نيوزويك» الأمريكية الشهيرة إن «مبارك إن لم يجد الإخوان لاخترعهم» قاصدة بهذا استخدام السلطة وقتها للجماعة كفزاعة فى الداخل فيتآلف المثقفون والمدنيون مع النظام، وفزاعة فى الخارج، فلا تطمئن القوى الدولية إلا لهذه السلطة، وبالتزامن مع هذا خرج المرشد العام للإخوان ليتحدث وقتها، على غير إرادة ومصلحة الأغلبية الكاسحة من المصريين، عن عدم معارضة الجماعة لتولى جمال مبارك حكم مصر.
وكان كلما وهن النظام وتراخت قدراته، واتسعت الهوة بينه وبين الناس، يخرج الإخوان من قبوهم التاريخى ليحقنوه بدم جديد، يجعل الحياة تسرى فى شرايينه التى كانت تكاد تتيبس. وكان هذا نابعا من أن الإخوان كانوا يخشون بطش النظام ويقدرون ما لديه من أدوات مفرطة للإكراه المادى والمعنوى، ولا يثقون فى أن الناس سينصرونهم إن وقعت الواقعة ودخلوا ضده فى مواجهة سافرة، وكانوا يعتقدون أن بقاء النظام على حاله من الإخفاق والافتقاد للرضاء الشعبى سيجعل جدرانه المتآكلة تتحطم فى النهاية على أيديهم ليرثوا تركته، ويديروها، وبالتالى ظل تعامل الإخوان مع مبارك دوما يقوم على المثل الذى يقول «اليد التى لا تستطيع أن تقطعها قبلها».
ولذا ظل الإخوان واقفين على باب النظام، يطرقونه فلا يسمح لهم بالدخول، لكنهم لم يغادروه إلى باب غيره، بل انتظروا ما وسعهم، وأعادوا الطرق من جديد بلا كلل ولا ملل، ودون أن يفقدوا الأمل، إلى أن فاجأهم الشعب المصرى فى ثورة عظيمة، فاستكثروها عليه، وهم من اعتادوا الانتظار الخانع الراكع الهاجع الخاضع.
وبعد الثورة فضل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى أسند إليه مبارك السلطة بعد تخليه عنها التعامل مع الإخوان والسلفيين عن التعامل التيار المدنى، لأنهم مجموعات منظمة يسهل التعاطى معها بالنسبة لقادة عسكريين اعتادوا النظام وطاعة الأوامر. وساعد على هذا التوجه أن الولايات المتحدة الأمريكية ضغطت من أجل إعطاء «الإخوان» فرصة للحكم، واستمرأ الإخوان الأمر، متنكرين للثورة أولا ومتربصين بالجيش ثانيا، فأدخلوا بلادنا فى هذا النفق المظلم.
لقد كتبت مقالا قبل أيام عن الثعالب السبعة التى تآمرت على ثورة يناير، وهى الإخوان، والمجلس العسكرى، وفلول نظام مبارك بإمكاناتهم الأمنية والاقتصادية والإعلامية والبيروقراطية، ونظم إقليمية خافت من تغير مصر، والأمريكان الذين خشوا من ثورة نادت باستقلال القرار الوطنى، والأحزاب التقليدية التى كانت تعيش على فتات مبارك، والمراهقون الثوريون. وكان من الطبيعى لكل ما جرى من تاريخ خيانات الإخوان لثورات المصريين أن أضعهم كأول ثعلب- بل ضبع- خان ثورة يناير كما خان غيرها.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع