قامت ثورة عارمة في الأوساط الثقافية إبّان الحكم الصادر ضد إسلام بحيري، ووقع الحكم النهائي الواجب للتنفيذ كالصاعقة على التيارات العلمانية التي بزغت على الساحة السياسية والمشهد الثقافي في سنوات ما بعد 25 يناير.
فكان التوجه السائد- بدون تعميم - هو أن قضية بحيري ما هي إلا زوبعة في فنجان، وأن قرار البراءة سيكون قرارًا سياسيًا إيذانًا بعهد جديد للحرية الفكرية.. فأين يكمن الخطأ في قراءة العلمانيين المصريين للمشهد السياسي بصورة لا تُعبر عن واقع الأحداث وتعقيداته العديدة؟
العلمانية في مصر
مرت مصر بتجربة شبه علمانية في النصف الأول من القرن العشرين، وانحصرت هذه التجربة وتراجعت بعد حرب 1967، وظل المنادون بمدنية الدولة يتحدثون عن العلمانية على استحياء عدا القليل من المفكرين الذين لم يناوئون في استخدام المصطلح بلا أدنى خوف ومن أبرزهم د. فرج فودة ود. فؤاد زكريا في ثمانينيات القرن الماضي وغيرهم.
التيار العلماني الجديد في مصر والذي يُطلق عليه مجازًا التنويريين الجدد، ظهر كتكتل ثقافيّ وسياسيّ ناشئ في صورة ردة فعل على ثورة يناير التي أتت بالإسلاميين إلى سُدّة الحكم، ليتحول التيار العلماني إلى وليد ظروف كادت أن تعصف بمصر إلى فوهة الدولة الثيوفراطية، وكان ظهوره ينبئ بتغيرات جسيمة (بالرغم من قلة أعداد المنتمين إليه مقارنة مع الأغلبية الأصولية).
فلا شك أن التيار العلماني متنامي حتى لو كان بشكل عشوائي أو غير منظم، ولم يعد قاصرًا على الأوساط النخبوية فحسب وهذه تعد ميزة في صالحه ولكن...
هل قرأ هذا التيار المشهد السياسي بشكل خاطئ.. خاصة مع دعوات الدولة لتجديد الخطاب الديني ؟ فتجديد الخطاب الديني لا يعني بالضرورة تحول الدولة إلى العلمانية، وإنما هو مؤشر على تأميم الخطاب لما فيه مصلحة الدولة ونظامها السياسي؟
قضية بحيري.. اختبار صعب للعلمانيين
لازالت قضية إسلام بحيري تُنظر أمام المحاكم، وفي آخر تطورات لها، تأجل النطق بالحكم في الطلب المقدم من دفاع إسلام البحيري لوقف تنفيذ الحكم حتى يوم 27 يناير 2016، ولا شك أن ارتداء البحيري للبدلة الزرقاء كان له وقع سيئ على التيار العلماني، الذي باغته الحكم بالرغم أن المؤشرات كانت تصب في اتجاه صدور حكم بسجنه فعلا.
لا تعقيب على أحكام القضاء، ولكن بالتأكيد يمكننا أن نعقب على القوانين التي أنتجت مثل هذه القضايا في مصر وهو ما تم طرحه تفصيلا في مقال سابق يحمل عنوان "ازدراء الأديان أم ازدراء العقول".
وبالرغم أنه لا يمكننا أن نربط بين الخطاب السياسي للدولة وبين الأحكام القضائية، إلا أنه لا بد أن نتوقف على رفض العلمانيين (بدون تعميم) قراءة المشهد بوضوح بعيد عن التمنيات السعيدة.
بعد وقف برنامج إسلام البحيري ورفع قضية ازدراء الأديان في حقه، لجأ كثير من المنتمين للتيارات العلمانية لاستخدام تصريحات على شاكلة "مؤكد أن الرئاسة تدعم البحيري"، وأكدوا مرارًا وتكرارًا بأن هناك تواصلا بين الرئيس والبحيري، وأن العد التنازلي صوب وطن يلفظ قوانين الحسبة وازدراء الأديان بات أمرًا نافذ المفعول.
بالرغم أن خطاب الرئيس في أبريل 2015 كان يقول عكس ذلك تمامًا، خاصة حين صرح بأن دعواته بخصوص تجديد الخطاب الديني تم فهمها بشكل خاطئ، وأنه غير راض عما تم تناوله من محاولات تجديد في الإعلام (في إشارة واضحة لإسلام بحيري)، دون أن يذكر اسمه. كما أن الرئيس أكد أن من يقوم بالتجديد هي مؤسسات حكومية (في إشارة واضحة للأزهر).
خطاب الرئيس كان واضحًا لمن أراد أن يعي أن الباحث الشاب لم يعد له ظهير سلطوي.
تجديد الخطاب العلماني
لا شك أن كاتبة هذه السطور تنتمي فكريًا إلى التيار العلماني، ولكن لربما تشرع بكل موضوعية في مراجعة كثير من مواقف هذا التيار عملا بمبدأ النقد الذاتي وتصحيح المسار، وعلينا أن نُدرك أنه لا مسار بدون رؤية.
أولا: ضرورة استفاقة التيار العلماني التنويري في مصر الذي يمارس السياسة ويؤيد السلطة كيدًا في الإسلام السياسي. وهذا لا يعني أن المطلوب هو معارضة السلطة المطلقة، وإنما المطلوب هو تأييد المواقف التي تدعم مدنية الدولة ورفض المواقف التي لا تدعمها، فنؤيد تارة ونختلف تارة على حسب الموقف لا الأشخاص الذين ننحاز إليهم، حتى وإن كان رئيس الدولة، شريطة أن يكون التأييد والمعارضة في إطار تقديم رؤية.
يجب أن نعي أن نزولنا ضد التيارات الدينية في 30 يونيو.. لا يجب أن يعمينا عن الأصولية المتجذرة في القانون والثقافة.. فالمعركة لا يجب أن تُدار على طريقة تأييد السلطة كيدًا في الإخوان! فالأمر أكبر من إسلام بحيري، في الحقيقة فإنّ القضية أكبر من إلغاء قانون ازدراء الأديان، وكلها معارك مشروعة سنخوضها.. لكن يجب أن نخوضها عن وعي.
ثانيا: لا بد أن نعي أن الإفراج عن إسلام بحيري- إن حدث فعلا - ليس انتصارًا فكريًا بل معركة قضائية بحتة، كما يجب أن ندرك أن إلغاء قانون ازدراء الأديان المادة 98 فقرة (و) من قانون العقوبات ليس انتصارا كذلك، لأنه سيتبقى لدينا قوانين الحسبة وهي قوانين لا يمكن كبح جماحها بسهولة؛ لأنها لا تستند إلى نص قانوني، بل إلى آية قرآنية ( رقم 104 من سورة أل عمران) "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
وبالتأكيد لا يُمكن أن نحذف آية قرانية، ولكن لا بد أن نعي أن قضايا الحسبة ستشكل ثغرة قانونية هائلة عند الشروع في صياغة قانون يدافع عن الحريات الفكرية.
ثالثا : يجب أن يُدرك التيار العلماني أن الأجهزة الأمنية لا تتبنى المشاريع التنويرية، وأن عدم تضييق الخناق ليس بالضرورة المباركة الكاملة، وإنما استخدام التيار في إحداث توازن قوي خاصة كورقة رابحة أو أداة ضد الإسلام السياسي.
رابعا: إدراكنا خطورة تحول العلمانية إلى مشروع إسلاموي آخر نبحث فيه عن مرشد للتنوير، فقوة التيار ليس في أن يكون أخوية علمانية، وإنما أن يخترق المجتمع بالفكر الذي يدعم دولة المواطنة وهو أمر عسير وسيتطلب سنوات من العمل.
خامسًا: لا بد أن يخوض التيار العلماني تجربة منظمات المجتمع المدني والاهتمام بقضايا مجتمعية أخرى، ولا يحصر نفسه فقط في قضايا الحرية الفكرية (وهي ضرورية بالطبع)، فلابد من تبني قضايا مجتمعية وتنموية لا تجعله منفصلا عن واقع الشعب المصري.
سادسًا: لا بد أن يُدرك المنتمين للتيار العلماني أن التيارات الدينية لم تنته في مصر بمجرد أنها لم تحصد أغلبية أو كتلة برلمانية، فهذه التيارات لا زالت متفوقة في الصعيد والريف، فلا داعي للتغني بانتصارات زائفة، مصر لا زالت غارقة في بحور الأصولية.
الخاتمة :
بزوغ التيارات والكيانات العلمانية تحول ثقافي كبير، إلا أنه تيار وليد، نخشى أن يولد مبتسرًا ويغرق في صراعات داخلية فيما بين العلمانيين والتنافس على كسرات الخبز.
الهدف ليس العلمانية.. الهدف وطن.. العلمانية وسيلة.. مجرد وسيلة.. نحن لا نملك الحلول.. نملك رؤى فقط عن كيفية البدء في التفكير في الحلول بعيدا عن أصنام ومقدسات العقل.. إذا تحولت العلمانية إلى دين أو مقدس له جهاد.. تُنسف الفكرة التي نشأت منها وعلى أساسها.
سنحتاج نحن أيضا إلى تجديد الخطاب العلماني والوقوف على أوجه القصور والتقصير.. حتى لا تنتهي العلمانية الى مشروع أسلاموي آخر.
نقلا عن دوت مصر