تحدثنا فى المقالتين السابقتين «أكان عصرًا ذهبيـًّا؟» و«أكان زمن الحكمة؟» عن قياصرة الإمبراطورية الرومانية وملوك «اليهودية» الذين عاصروا زمن السيد المسيح، وقدَّمنا مقتطفات عن الحكم الرومانىّ القاسىّ الذى امتلأ بالقتل والدماء والفساد والظلم، كما تحدثنا عن الفلسفات والمدارس التى انتشرت فى الإمبراطورية الرومانية آنذاك وأشهرها: «الفلسفة الرُّواقية»، و«الفلسفة الأبيكورية»، و«الفلسفة الشَّكِيّة البيرُّونية». وهٰكذا امتلأ عصر «السيد المسيح» بالهيمنة الرومانية بكل ما قدم أباطرتها وحكام مقاطعاتها من أعمال عنف ودماء، كما امتلأ العصر بالأفكار الفلسفية المتضاربة والمتناقضة، إضافة إلى حالة الفساد الأخلاقىّ فى الحياة الاجتماعية، وفى العبادات الوثنية التى تفاقمت بوحشية طُقوسها التى وصلت إلى تقديم الذبائح الآدمية إرضاءً للآلهة الوثنية!! أمّا عن اليهود فى ذٰلك الوقت فهو حديثنا اليوم.
كانت بلاد «اليهودية» آنذاك، كما ذكرنا، تحت الحكم الرومانىّ الممتد فى القارات الثلاث «آسيا» و«أفريقيا» و«أوروبا». وقد تحدثنا بالتفصيل عن القياصرة والحكام الذين سبقوا ميلاد السيد المسيح وعاصروه فى أثناء حياته على الأرض.
«اليهود» حتى عصر السيد المسيح
بعد أن تغلب «أنطيوخُس الكبير» ملك «سوريا» على «بطلَيموس الخامس» ملك «مِصر»، خضعت «اليهودية» لحكمه، وكان ذلك فى عام ١٩٨ ق. م.، وقد عاملهم «أنطيوخُس» معاملة كريمة بها كثير من اللِّين والرفق، ورفع عنهم الجزية ثلاث سنوات، فسادَ السلام والهدوء فى أيامه. إلا أن الأمر لم يستمر على هٰذا الحال فى عهد ابنه «أنطيوخُس»، الذى تولى الحكم من بعده فى عام ١٧٥ ق. م.، فقد أساء معاملة «اليهود»، وباع وظيفة رئيس الأحبار إلى أخيه المسمى «يشوع» مقابل مال يقدَّم إليه كل عام. وقد أطلق «يشوع» على نفسه اسم «ياسون»، وكان مُولِعـًا بالعادات اليونانية فجلبها إلى «اليهودية»، ومنها أنه أنشأ ملعبـًا فى «أورُشليم» يتصارع فيه الشبان عراةً على مثال اليونانيِّين! وقد ازداد فساد الكهنة والشعب فى أيامه جدًّا.
ثم قام أخ آخر له يُدعى «أونياس»، وأطلق على نفسه اسم «مِنِيلاوُس»، بشراء الرتبة الحَبرية من «أنطيوخُس» بعد أن باع بعض آنية الهيكل، وهو ما أحدث اضطرابـًا كبيرًا وحزنـًا شديدًا بين الشعب. وفى أثناء غياب «أنطيوخُس» فى «مِصر»، عام ١٧٠ ق. م.، انتشر خبر كاذب عن موته، فجاء «ياسون» لنزع السلطة من أخيه «مِنِيلاوُس»، لٰكنه لم يستطِع التسلط على المدينة إذ عاد «أنطيوخُس» وعلِم أن اليهود قد سُرُّوا بخبر موته فهجم على «أورُشليم» وقتل ما يقرب من أربعين ألفـًا من أهلها، وباع آخرين عبيدًا.
كذٰلك أصدر «أنطيوخُس» أمرًا بأن تكون العبادات اليونانية هى العبادات الرسمية فى بلاده، فأرسل من يعلِّم «اليهود» العبادات الوثنية، فأكرههم على عبادة الأصنام وعدم حفظ يوم «السبت»، ومنع الخِتان، وعذَّب وقتل كل من لم يَمتثِل لأوامره. وظل الأمر هٰكذا حتى ظهر «مَتّاثِيا» الكاهن مع بنيه الخمسة الذين فروا مع آخرين إلى مدينة «مودين» فى بلاد الفلسطينيِّين، ورفضوا عبادة الأوثان، وبدأوا فى تكسير الأصنام، ونادَوا بالعودة إلى العمل بالشريعة؛ فانضم إليهم عدد كبير من أبناء أمتهم وفروا إلى الجبال، وكان ذلك فى عام ١٦٨ ق. م.؛ وكانت عائلة «مَتّاثِيا» تلقب بـ«الحَشمونية»، إلا أن ابنه «يهوذا» لُقب بـ«مكابيوس» لشجاعته فسُمى أهله بـ«المكابيِّين».
جمع «مَتّاثِيا» «اليهود»، وعادوا إلى بلادهم فى عام ١٦٧ ق. م.، حيث كسَّروا مذابح الآلهة الغريبة، وأعادوا الخِتان والعمل بالشريعة. ثم أقام «مَتّاثِيا» ابنه «يهوذا» خليفةً له فحارب «أنطيوخُس» وهزمه شر هزيمة. وفى عام ١٦٥ ق. م، استطاع «يهوذا» بالرغم من عدد المحاربين القليل معه، أن يستولى على حُصون «جَلعاد» ثم مدينة «أورُشليم»، فطهَّر الهيكل وأعاد الخدمة الدينية ثلاث سنوات. وفى عام ١٦٤ ق. م، مات «أنطيوخُس»، وبدأت الصراعات على الحكم ومحاربة «اليهود» بقيادة «يهوذا المكابى» حتى عام ١٦١ ق. م. عندما قُتل غدرًا.
تولى قيادة «اليهود» بعد ذلك «يوناثان» أخو «يهوذا»، فاستمرت الحروب مع السوريِّين الذين لم يتمكنوا من إخضاعه فقطعوا معه عهد سلام فى عام ١٥٨ ق. م، وأخذ «يوناثان» الوظيفة الكهنوتية والسياسية فصار رئيس اليهود الدينىّ والسياسىّ فى عام ١٥٠ ق. م.، حتى قُتل بحيلة من أعدائه، فى عام ١٤٤ ق. م.، فى أثناء الصراعات على الحكم فى «سوريا».
استكمل المسيرة «سِيمُون» أخوه، وكان هو المتبقى من بيت أبيه بعد موتهم جميعًا، فصار رئيسـًا على «اليهود» وتمكن من «أورُشليم»، فقوَّى أسوار المدينة وأحسن السياسة وحصل اليهود بفضله على استقلالهم ـ لذٰلك يؤرخون مُلكهم من السنة الأولى لحكم «سِيمُون» عام ١٤٣ ق. م. ـ وبدأ السلام يحِل فى البلاد. ثم قُتل «سِيمون» غدرًا بيد «بطلَيموس» حاكم «أريحا» المدعو بالعبرية «تَلْماى»، الذى أراد القضاء على أفراد عائلته جميعـًا، إلا أن «يوحنا» ابنه فر ولم يتمكن منه «بطلَيموس». وتولى «يوحنا» الحكم من بعد أبيه «سِيمون»، فى عام ١٣٥ ق. م.، وكان يلقب باسم «هِركانُس».
حاول «أنطيوخُس السابع» أن يُخضع اليهود له مرة ثانية فحاصر مدينة «أورُشليم»، لٰكنه لم يقوَ عليها. إلا أنه أظهر احترامـًا للشرائع اليهودية، فاتفق «اليهود» على الاعتراف بمُلك «أنطيوخُس»، وتقديم أموال إليه جزيةً. حتى هُزم «أنطيوخُس»، فأعلن «هِركانُس» استقلاله فى عام ١٢٨ ق. م.، وعدم الخضوع لملوك «سوريا»؛ وعند استتباب أمور الحكم له أخضع القبائل المجاورة، و«الأدُوميِّين»، و«السامريِّين»، وأضاف إليها «الجليل»، وقد اهتم بأورُشليم وحصَّنها. قامت «المملكة الحَشْمونية» مع حكم «أرستوبولُس» ابن «هِركانُس»، ثم أخيه «إسكندر يَنيوس»، وكان عصرهما عصر ظلم وقتل وقسوة.
ثم تصارع على الحكم من بعد «إسكندر يَنيوس» ابناه «هِركانُس الثانى» و«أرِسْتُبولُس الثانى»، ما تسبب فى عودة سلطة «سوريا» على بلاد «اليهودية» فى عام ٦٣ ق. م على يد «إسكارُس» نائب «ُبُمبيوس» القائد الرومانيّ. وبعد ذٰلك، قدِم «بُمبيوس» إلى «اليهودية» وتمكن من دخول «أورُشليم» والاستيلاء عليها. أمّا الكهنة فاحتمَوا بالهيكل الذى كان حصنـًا منيعـًا، فدام الحصار نحو ثلاثة أشهر حتى تمكن منه «الرومان» وقتلوا الكهنة بالسيف وهم يخدُِمون المذبح، وهٰكذا عام ٦٣ ق. م. خضعت «اليهودية» «للدولة الرومانية». وكانت محاولات للتمرد انتهت بحكم «أنتِيباتِر» نائبـًا لـ«يوليوس قيصر»، إمبراطور «روما» فى عام ٤٨ ق. م.، الذى تولى من بعده ابنه «هِيرُودُس الكبير» الآمر بقتل أطفال «بيت لحم»، الذى مات بعد عذاب شديد فى مرضه عام ٤م.
«أرخِيلاوُس»
بعد موت «هِيرُودُس الكبير»، قُسّمت مملكته بين أبنائه الثلاثة: «أرخيلاوُس» و«هيرودُس أنتِيباس» و«فيلِبُّس». فتولى «أرخيلاوُس» حكم «اليهودية» و«السامرة» و«أدومية»، ولم يكُن سياسيـًّا حكيمـًا ما أحدث فى عهده عددًا من الاضطرابات والثوْرات؛ كذٰلك أساء معاملة «اليهود» واضطهدهم بدرجة كبيرة ما دفعهم إلى تقديم الشِّكايات إلى قيصر روما، مشككين فى قانونية حكمه؛ فقام الإمبراطور الرومانىّ بعزله.
وفى أيام حكمه، ظهر ملاك الرب فى حُلم لـ«يوسُف النجار» وهو فى «مِصر» لكى يعود بعد أن مات «هِيرُودُس»، قائلاً: «قُم وخذ الصبىّ وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبى»، وعندئذ بدأت رحلة عودة «العائلة المقدسة» من أرض «مِصر»، فقام وأخذ الصبىّ وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل. إلا أنه بقُدوم «يوسُف النجار» وبصحبته «العائلة المقدسة»، نما إلى سَِمعه الاضطرابات الحادثة وإساءة معاملة «أرخيلاوُس» لليهود فشعر بالقلق، فيذكر الكتاب: «ولٰكن لما سمِع إن أرخيلاوُس يملِك على اليهودية عوضًا عن هِيرُودُس أبيه، خاف أن يذهب إلى هناك. وإذ أُوحِى إليه فى حُلم، انصرف إلى نواحى الجليل».
وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع