أنزلت طائرات شحن روسية مساعدات غذائية وطبية إلى المدنيين المحاصرين في دير الزور السورية، معيدة إلى الأذهان "طريق الحياة" عبر بحيرة لادوغا قبل فك الحصار النازي عن لينينغراد.
موسكو حينما أعلنت إطلاق عمليتها الإنسانية في سوريا، جددت على لسان مسؤوليها وعبر وسائل إعلامها توجيه الاتهامات إلى أنقرة بالوقوف في مقدمة الجهات التي رقصت على إيقاع خراب سوريا، وبأنها كانت عندما ترسل ما أسمته بالمساعدات الإنسانية إلى السوريين، إنما تبعث بالأسلحة والمتفجرات لدعم جماعات مشبوهة، في مقدمتها مجاميع التركمان ذوي الولاء التركي في شمال سوريا.
"مساعدات" أنقرة استمرت في التدفق حتى أن استجلب الأتراك النقمة إلى أنفسهم وأسقطوا القاذفة الروسية ليثيروا بذلك حفيظة موسكو ويضطرونها لفضحهم، إذ كانت(موسكو) على يقين تام بدعمهم للمسلحين في سوريا بيد، ومحاربتهم بأخرى، معتقدين أن لا أحد يعلم بما يديرون، وأن الحجاب مسدل على علاقاتهم "التجارية" مع "داعش"، وعلى شراكاتهم المشبوهة مع مختلف العناصر والزمر الهدامة.
روسيا بعمليتها الإنسانية، في إطار حملتها العسكرية الجوية التي تقطع بها "الأواصر" بين أنقرة و"داعش"، إنما تريد كذلك توصيف العمليات الإنسانية وتعريفها، بعد أن وصل الأمر بواشنطن وحلفائها إلى اعتماد مصطلح العمليات الإنسانية لتدمير الدول وهدم بناها التحتية واقتصاداتها ومجتمعاتها.
فالعالم لم ينس "العملية الإنسانية" التي "تجلت" في برنامج النفط مقابل الغذاء الذي استنزف العراق وجوع أهله، و"العملية الإنسانية" التي أطلقها الناتو للقضاء على يوغوسلافيا. كما لا تزال ماثلة في ذاكرة العالم "العملية الأكثر إنسانية" التي سيرها الناتو جوا على ليبيا للإطاحة بالسلطات الشرعية فيها، ومد يد العون "لـشركاء" جدد له هناك يسهرون على حماية منابع النفط الليبي وموانئ تصديره وطرق توريده.
وذاكرة العالم، "تزخر" كذلك بعمليات "إنسانية" غربية من نوع آخر تتمثل في تقديم "المساعدات" المالية لهذا البلد أو ذاك بعد الإطاحة بنظام السلطة الشرعية فيه، أو إثارة البلبلة والفوضى السياسية وفراغ السلطة على أراضيه وما يتمخض عنه من فقر شامل يركعه إلى صندوق النقد الدولي لاستعطاء القروض من باروناته الذين يعتبرونها "مساعدات" مالية.
قروض تثقل كاهل شعب البلد المدين وتعطى له بعد أن يلغي برامج الدعم الاجتماعي، ويقلص معاشات التقاعد لمسنيه، ويتخلى عن عشرات المشاريع، ويعدل تشريعاته بما يخدم نشاط الشركات الغربية على أراضيه، بحيث يتمكن من سداد ما عليه من "مساعدات" مالية طائلة حصل عليها بعد الترجي.
فبين "المستفيدين من المساعدات" المالية الغربية اليونان، وسائر بلدان الثورات الملونة في أوروبا وشمال إفريقيا وغيرها، فيما تطول وتطول قائمة البلدان طالبة "المساعدات"، والتي لن تحصل على أي "مساعدة" قبل أن تندلع على أراضيها ثورة بلون أو بآخر، تحت مسميات تعددت واختلطت حتى تبنى المراقبون اسما جامعا لها يصفها "بالملونة"، فهي برتقالية وجورية ومخملية.
العملية الإنسانية الروسية في سوريا التي التحقت بها وزارة الدفاع الروسية يوم أمس كانت قد انطلقت عمليا منذ أن فقدت سوريا توازنها الاقتصادي وسقطت ضحية للعقوبات الغربية والحصار قبل أن يتوافد عليها شذاذ الأفق من كل حدب وصوب عبر الأراضي التركية وعلى مرأى من عسس السلطان، لكنها أخذت منحى إضافيا تدأب طائرات الشحن العسكرية الروسية فيه على إيصال المساعدات لمستحقيها وكسر الحصار عنهم.
وبالعودة إلى حصار لينينغراد إبان الحرب العالمية الثانية، ومن خلال استنساخ المحاصرين في دير الزور وغيرها مصير أهل المدينة الروسية في جوعهم وبردهم، يأمل كل إنسان في أن ينكسر الحصار ويرفع عن جميع المدنيين والجوعى والمرضى في سوريا، فلما لا، وطائرات الشحن العسكرية الروسية تلقي المساعدات من الجو تزامنا مع ضربات جوية دقيقة يتلقاها المسلحون من الطائرات الهجومية والقاذفات؟
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان في تحليل ما تشهده سوريا من مآس وسباقات على "دعمها ومساعدتها وتخليصها من نظامها": أليس من الأجدى بتحالف واشنطن الدولي الناشط في سماء شمال سوريا لمكافحة "داعش" أن ينزل إلى المحاصرين المساعدات الإنسانية، عوضا عن إسقاط الأسلحة إلى "ثوار معتدلين" تلقفها الإرهابيون وتباهوا بها أمام العالم؟ وهل من المستحيل التنسيق مع روسيا والسلطات السورية لإطلاق عملية إنسانية دولية ينزل بها العالم المتحضر الغذاء والدواء للمحاصرين في مدن وبلدات سوريا؟ أم أن الغرب وحلفاءه اعتادوا على تنظيم عمليات "إنسانية" من نوع آخر؟