باستثناء هؤلاء الذين توهموا أن الدنيا لاتزال كما هى، وأن باستطاعتهم أن يؤسسوا لديمقراطية غير حزبية، تقوم على أغلبية كاسحة وأقلية كسيحة، وبمقدورهم أن يهندسوا مجلساً نيابياً على مزاجهم، يشيلونه فينشال ويحطونه فينحط على طريقة خالد الذكر كمال الشاذلى، حدث ما كان يتوقعه الجميع غيرهم، وشاهد المصريون فى النصف الأول من الأسبوع الماضى، بمناسبة افتتاح مسرح مجلس النواب، فصلاً هزلياً من التاريخ البرلمانى المصرى، تضمن مجموعة من الاسكتشات المرتجلة، بعضها فى اللغة العربية ترفع المجرور وتنصب الفاعل وتجر المفعول به، على طريقة «إنجليزى ده يا مرسى»، وD›ont Mix، وتضرب المغفور له بإذن الله تعالى «سيبويه» - مؤسس علم النحو - على حنطور عينه، مما اضطره إلى مغادرة القاعة غاضباً، ولما سألته عن وجهته قال لى إنه يبحث عن وزير التربية والتعليم، لكى يفقعه علقة ساخنة، وبعضها فى القانون الدستورى، على طريقة «الريس حنفى» - صاحب الباخرة «نورماندى تو» الذى كان يستهل كلامه مؤكداً بكل حسم بأن كلمته واحدة، ولا يمكن أن تنزل الأرض مهما حدث، وينهيه مؤكداً بكل سماحة أنها سوف تنزل - هذه المرة فقط - إلى سابع أرض.. وبعضها الثالث على طريقة النائب «توفيق عكاشة» - ولقبه الرسمى هو مفجر ثورة 30 يونيو - الذى وضع على شفتيه شريطاً لاصقاً، يحمل عبارة «ممنوع من الكلام بأمر الحكومة»، وهو ما جعل أحد زملائه النواب يؤكد لى أن حكومة «شريف إسماعيل»، سوف تحصل على ثقة المجلس بالإجماع لأنها قامت بمعجزة كونية هى منع «عكاشة» من الكلام لمدة نصف ساعة!
ولأن شر البلية ما يضحك، فقد تسلى المصريون بشد المسخرة على حفل افتتاح المجلس الموقر، وبالذات على هؤلاء العباقرة الذين توهموا، وأوهموا الجميع، بأن كل شىء تمام التمام، وأنهم أعدوا للأمر عدته، ونجحوا فى وضع أكثر من ثلثى عدد النواب فى جيوبهم، وضمنوا بذلك كل الأغلبيات التى ينص عليها الدستور، ليتضح - بمجرد افتتاح المجلس - أنه لا شىء قد تم ترتيبه، وأن جماعة الأغلبية الكاسحة قد وقعت فى فخ مُتقن لخديعة النفس، حين تخيلت أنها تستطيع أن تشكل أغلبية من المستقلين، الذين لا تجمعهم رؤية موحدة، أو إرادة واحدة، وحين انشغلت بمحاولة حل الخلافات التى نشبت فيما بينهم، حول توزيع المناصب القيادية فى المجلس، أكثر مما انشغلت بالبحث عن الحد الأدنى من المشتركات السياسية التى ينبغى أن يتجمعوا حولها، فكانت النتيجة هى الفوضى غير الخلاقة التى سادت أسبوع الافتتاح، والتى لم يجد لها المجلس حلاً، إلا بأن يوقف بث الجلسات تليفزيونياً، حتى ينصرف الجمهور عن مشاهدة ما يجرى على خشبة مجلس النواب مؤقتاً، إلى أن يجد حلاً للمأزق الذى أوقعته وأوقعت نفسها فيه جماعة الأغلبية المستقلة الكاسحة!
ولو أن القيادة - الظاهرة أو المستترة - لهذه الجماعة، كانت قد أدركت منذ البداية أن صيغة الديمقراطية غير الحزبية، وبرلمان المستقلين، هى صيغة تخالف الشعارات الأساسية التى طرحتها ثورتا يناير ويونيو، وتتصادم مع نصوص صريحة فى الدستور، فضلاً عن أنها لا تؤهل البلاد - خلال المرحلة الانتقالية الراهنة - لتأسيس دولة ديمقراطية عصرية طبقاً للمعايير الدولية - لسعت منذ البداية لبناء تحالف نيابى يضم الأحزاب الفائزة بالأكثرية، ويحشد حول كل منها المستقلين الذين يتبنون رؤى قريبة مما تراه، ولدعت ممثلين لهذه الأحزاب والتيارات للحوار معها، وفيما بينها، للاتفاق حول المشتركات الوطنية التى تشكل الحد الأدنى لمتطلبات هذه المرحلة.
ولو أن شيئاً من ذلك كان قد حدث، لما أصرت جماعة الأغلبية المستقلة الكاسحة، على خوض المنافسة على كل مقاعد هيئة مكتب المجلس بالكامل، فى حين كان الأوفق أن تتوزع هذه المقاعد بين أطراف التحالف، أو أن يتولاها متخصصون أكفاء تتفق عليهم هذه الأطراف، ولما ساد داخلها اتجاه يدعو لاحتكار جميع مناصب رؤساء اللجان ووكلائها ومقرريها، أو أغلبيتها الكاسحة، على نحو لا يؤدى فحسب لتهميش بقية الأحزاب والتيارات، بل يفتح باب الصراع واسعاً بين أعضائها على تولى هذه المواقع، ويهدد بتفتيتها.
وكان الانشغال بهذا الصراع هو الذى حال بين جماعة الأغلبية المستقلة الكاسحة وإجراء حوار بين أعضائها، وبينهم وبين غيرهم من النواب، يؤدى للتوافق حول موقف مشترك من أسلوب عرض ومناقشة وإقرار القرارات بقوانين التى صدرت خلال الفترة بين إقرار الدستور وانعقاد المجلس، وهو ما أسفر عن قرار مرتبك وعشوائى، يجمع بين تشكيل اللجان الدائمة على أن يتولى رئاستها أكبر أعضائها سناً، واعتبارها لجاناً مؤقتة، تعمل لمدة ثلاثة أيام فقط، تنظر خلالها ما يدخل فى اختصاصها من تلك القرارات بقوانين، لتنتهى مهمتها، وتعود إلى قواعدها سالمة، إلى أن يتوصل المجلس إلى حل للصراع بين أعضائه حول توزيع خريطة النفوذ فى لجانه، الذى هو أعقد من الصراع العربى الإسرائيلى.
ولأن مناقشة دستورية حول سيناريو إقرار هذه القرارات بقوانين لم تجر بين الكتل البرلمانية، قبل انعقاد هذه اللجان، فقد تصرفت كل منها على حسب مزاجها السياسى، اعتبر بعضها المهمة شكلية وتحصيل حاصل، فأوصت بالموافقة على ما عرض عليها من قوانين، وأخذت لجان أخرى الأمر بجدية فأوصت بإلغائها من دون أن تضع فى اعتبارها ما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار، سوف يتولى المجلس فى جلسته التى سيعقدها غداً إزالتها.. بأن يضرب عرض الحائط بتوصية اللجنة!
ذلك غيض من فيض.. وقليل من كثير، من المشاكل التى سوف تعترض مسيرة الوطن الديمقراطية، إذا ما واصلت جماعة الأغلبية المستقلة الكاسحة.. مساعيها الحميدة!
نقلا عن المصري اليوم