فى خطابه الأخير عن «حالة الاتحاد»، أكد الرئيس الأمريكى باراك أوباما أن بلاده «هى الأقوى فى العالم»، وأن اقتصادها هو «الأكثر ازدهاراً»، وأن قوتها العسكرية هى «الأضخم على مر التاريخ».
فهل كان أوباما يكذب؟
تشير أفضل المعلومات المتوافرة إلى أن الاقتصاد الأمريكى يعانى من اتساع تاريخى فى العجز التجارى وزيادة مفرطة فى الدين الداخلى، كما يواجه تحديات كبيرة من اقتصادات أوروبا واليابان والصين، لكنه مع ذلك يبقى الأضخم والأكثر تنوعاً.
على صعيد الأوضاع العسكرية، سيبدو «أوباما» محقاً حين يتحدث عن قوة عسكرية ضخمة تمتلكها بلاده؛ إذ تشير المعاهد ومراكز البحوث المعنية إلى تفوق الآلة العسكرية الأمريكية لتصبح أعتى قوة حربية فى التاريخ.
واشنطن أيضاً هى الأكثر فى مجالات الإنفاق العسكرى، والأغزر إنفاقاً على التطوير والبحوث.
لكن للسلاح طاقة محدودة مهما كان ضخماً وعنيفاً ومتطوراً.
لم ينجح السلاح الأمريكى فى فيتنام والصومال والعراق وأفغانستان، وهو يبدو اليوم عاجزاً أيضاً عن الحسم فى مناطق أخرى ساخنة وملتهبة مثل سوريا. عندما انهار الاتحاد السوفيتى، ظن كثيرون أن العالم تحول من «الثنائية القطبية» إلى «الأحادية القطبية»، وأن واشنطن انفردت بقيادة الكون، وأنها تستطيع أن تقرر فى أى أزمة وأى مجال، وأنها تستطيع أن تنفذ ما سبق أن قررت حدوثه.
لا يبدو أننا نصدق هذا الآن.
البعض ما زال يفرط فى تقدير قوة واشنطن.
ليس الأمر على هذا النحو، فطاقة دولة واحدة، مهما بلغت من قوة واتساع، لا يمكن أن تنهض بأعباء إدارة العالم كله.
إن الخطاب الذى ألقاه أوباما، مساء الثلاثاء الماضى، هو خطاب التقييم العام والشامل والأخير لفترة حكمه وأدائه وإنجازاته، ولذلك فقد سعى إلى إعطاء الانطباع بأنه يسلم المسئولية وواشنطن على رأس العالم، متمتعة بأكبر قدر من السيطرة والقوة.
لا توجد قوة منفردة يمكن أن تقهر واشنطن اليوم، لكن واشنطن لا تملك القوة الكافية لإنفاذ إرادتها المنفردة حيثما أرادت.
لا يمكن لواشنطن اليوم أن تُركع كوريا الشمالية بالحصار الاقتصادى، أو تطيح بعالم كوبا بالعزل السياسى، أو تهزم «داعش» بصواريخ «توما هوك»، أو تجبر إيران على «الاعتذار» و«التخلى عن مشروعها النووى» بقدراتها العسكرية والاقتصادية، أو تحل «حزب الله» بالضغط السياسى، أو تصرف «حماس» عن مشروعها بأى صورة من الصور.
لكن واشنطن تستطيع أن تؤطر حركة الجمهور العالمى عبر الأنموذج الذى تستند إليه وتعلن تبنيه، وأن تجبر دولاً، وأن تقنع جماعات، بمقاربة قيم الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان والمساءلة والمحاسبة وتوازن السلطات والحكم الرشيد.
ما يمكن أن تفعله دولة قوية فى العالم أو فى الإقليم ليس الإجبار والغلبة بالاقتصاد والآلة الحربية فقط، ولكن القوة فى عالم اليوم تأتى أيضاً من سيادة القيم وطرح الأنموذج الملهم.
لذلك، فإن أوباما حرص على أن يشير إلى ضرورة «إغلاق معتقل جوانتانامو»، لأنه، كما قال نصاً «يخدم أعداءنا».
والواقع أن المزاوجة بين القوة الصلبة الممثلة فى السلاح والاقتصاد، والقوة الناعمة الممثلة فى الأنموذج القيمى والمعرفى، هى ما أبقى أمريكا على رأس العالم حتى الآن.
فإذا أرادت الولايات المتحدة أن تكرس قيادتها وتفوقها فى هذا العالم، فليس أمامها سوى الإخلاص للقيم التى ادعت تبنيها منذ أعلنت استقلالها.
إن الخطر الكبير على واشنطن يتمثل فى تناقض سياساتها مع قيمها المزعومة، وليس فقط تقلص قدراتها الاقتصادية والعسكرية فى ظل منافسة شرسة.
نقلا عن الوطن