الأقباط متحدون - غزوة المعممين
أخر تحديث ٠٥:٠٦ | الجمعة ٨ يناير ٢٠١٦ | ٢٩ كيهك١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٠١ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

"غزوة المعممين"

تعبيرية
تعبيرية

بقلم - فاروق عطية
   يبدو أن أفكار شيوخنا ذو العمائم ـ أطال الله في أعمارهم وزادهم ثروة وجلالاـ أو كما كُنا ندعوهم قديما بالمعمّمين للتفرقة بينهم وبين من يلبسون الملابس الإفرنجية من حُلة ورباط عنق وطربوش أوكما كُنا ندعوهم قديما بالمطربشين، أفكارهم لم تتغير ولن تتغير حتي يغيروا هم ما بأنفسهم، بل أفكارهم المريضة وتخلفهم الفكري ازداد بعد أن خلعوا الجبة والقفطان والعمامة وارتدوا بدلا منها الجلباب القصير والغُطرة، وتحولوا من الإسلام الوسطي السمح إلي تطرف الوهابية المقيت.

   ما إن وضعت ثورة 25 يناير أوزارها وتنحى المعزول لا رضي الله عنه ولا أرضاه، وقبل أن نتنفس عبير التحرر من ربقة الديكتاتورية وقبل أن يعي الثوار مخاطر التغيير، حيث أنهم حقيقة بلا خبرة ولا كفاءة، إضافة لما انتابهم من أعراض تضخم الذات وزهو كاذب أنهم وحدهم أصحاب الثورة، وانعدام الرغبة لديهم لاستماع نصائح من عركتهم الحياة لبسياسية بين أنيابها، تركوا مصر بلا وعي فى مستنقع آسن تتعرّض لأشد أنواع الجرائم والابتزاز واستعراض القوة من الجماعات المتأسلمة التى عزمت كل الضواري من شتا بقاع الأرض ليتقاسموا الوليمة.

   دخلنا في موال البيضة أولا أم الفرخة، أقصد فى دوامة الدستور أولاً أم البرلمان، فكانت الفكرة الماكرة باجراء استفتاء شعبي علي ذلك. واستُخدم الدين في غير موضعه ودقت طبول الحفاظ علي الإسلام من الانهيار، مدّعين أن انتصار الدستور أولا انتصار للمدنية والعلمانية وهزيمة للإسلام والرسول، فالمدنية تعني الكفر والزندقة والعلمانية تعني التحرر من القيم والأخلاق، والزندقة التحرر ضلالة وكل ضلالة في النار. ووزعت زجاجات الزيت وأكياس الأرز لشراء الذمم، وتم الاستفتاء في جو مشحون بالضغط الديني وكان النصر للأفاقين وتجار الدين.

   لنجد أنفسنا أمام خطاب تاريخى للشبخ محمد حسبن يعقوب بلحيته البيضاء التي تضارع لحية سانتا كلوز بياضا وطولا ويبدو والله أعلم أنه قد داوم غسلها بمسحوق تايد الذى يغسل كموج البحر, ووجه يخلو من أى إيمان وابتسامة من فرط اصطناعها وطول استخدامها أصبحت مثل يافطة قديمة مسحت عوامل التعرية أى معنى لها سوى الخبث وهو يقول: وقد ارتسمت علي وجهه الصبوح علامات الفرحة الغامرة بابتسمة واسعة مبهجة: بلغني أخبار سارة بنعم, الله أكبر, كانت هذه غزوة إسمها غزوة الصناديق. كان السلف الصالح عليهم رحمة الله يقولون لأهل البٍدع بيننا وبينكم يوم الجنائز, يعني يوم ما اموت شوف كام هيمشوا في جنازتي وكام هيمشوا في جنازتك. واليوم قد جعلنا بيننا وبينكم الصناديق, وقد قالت الصناديق إيه؟ ويردد تلاميذه بصوت حاشد: نعم..! ويتابع: لقد قالت الصناديق للدين نعم، وقالت لتطبيق الشريعة نعم.

   فى الحقيقة كان يقصد شريعة الغاب لا شريعة الإسلام الذي يعرفه الشعب قبل أن يعرفهم. تعلمنا كيف نعيش معاً، وكيف نحترم اختلافاتنا ولا نحولها إلى خلافاتنا. أفكارهم سطحية لا تعرف غير حياة البداوة والجلافة، والتمسك بشكليات تتنافى ليس مع الشريعة فقط بل مع مبادئ حقوق الإنسان التي وقعت مصر علي احترامها. لا يهمهم من الشريعة غير تطبيق الحدود التي لو طبقت لكانوا هم أول ضحاياها، وتعرض معظمهم للجلد وقطع الأيدي. طرحوا تصورات مريضة حول نمط الحياة والتعليم والعلم والفن والثقافة ودور المرأة ومكانتها وجعلوها عورة وفتنة وسببا لكل الشرور. لا للموسيقي ولا للرقص حتي لو كان الباليه وهو أرقي الفنون، ولا للسينما والإبداع الفني. والأدهي والأمر دعوتهم لتحطيم الآثار لأنها في فكرهم المريض أصناما. ولا للسباحة بلباس البحر وسحقا للسياحة.

   تداعت التهاويم والأفكار والأحلام، وعاد بي الفكر لماضي الطفولة والصبا وأيام المدرسة الابتدائية وذكرياتها التي لا تنسي مع مر السنين الني كانت أحلي أيام العمر الذي ولّي ولن يعود. كانت مدرستنا سباقة فى التظاهرات الطلابية بزعامة عمو فؤاد الذي كان يجعر بصوته الجهورى فى فناء المدرسة بيحيا اتحاد الطلبة حتى نلتم جميعا خلفه خارجين مرددين الهتافات حسب المناسبة ونمر على جميع المدارس الابتدائية والإلزامية والثانوية والصنايع إضافة للمعهد الدينى فيخرج الجميع ملبين النداء.

    وكانت معظم تظاهراتنا تحدث يوم الخميس حيث يعقبها الإجازة الأسبوعية. ذات خميس لم يكن عمو فؤاد فى المود المناسب للتظاهرات، وفوجئنا بطلبة المعهد الدينى ( معهد دينى إبتدائى تابع للجامع الأزهر كان يلتحق به التلاميذ كبار السن ومعظمهم من ذوي الإعاقات ) وكنا ندعوهم بالمعمّمين، فوجئنا بهم  يبدأون بالتظاهر حتى وصلوا إلى أبواب مدرستنا مرددين الهتاف المعهود يحيا اتحاد الطلبة حتى نخرج معهم. غضب عمو فؤاد غضبا شديدا وقال: إنه من العار على أفندية مطربشين مثلنا أن يمتثلوا لمثل رعاع المعممين المتخلفين علميا وفكريا وعقليا، ونحن من نقود التظاهرات لا هم، دعوهم وشأنهم لا تظاهر اليوم، ولا تلقوا لهم بالا حتى ينصرفوا مخذولين مدحورين، حتي يعرفون مقامهم ولا يتجاوزوه مستقبلا.

    ولكنهم للأسف لم ينصرفوا وأصروا على خروجنا، وعندما شعروا بعدم امتثالنا، ملأوا عمائمهم بالطوب والزلط، واستخدموا شيلان عمائمهم كمقاليع، وأمطروا مدرستنا بوابل من الزلط والطوب حتى تكسر زجاج معظم نوافذ المدرسة. صاح عمو فؤاد مناديا أحمد بليلة فراش المدرسة، وعندما حضر الفرلش قال له : هات خرطوم المياه وتعالى خلفى إلى سطح المدرسة. كان الجو شديد البرودة لأننا كنا فى فصل الشتاء. وعندما وصلا إلى السطع ووجه بشبورى الخرطوم إلى المعممين، أمرنا بفتح صمام المياه، وحين اندفع الماء المثلج على أجساد المعممين لاذوا بالفرار تاركين بعض من عمائمهم وشيلانهم خلفهم متقين برودة الماء، عندها نزل عمو فؤاد والتقط العمائم والشيلان واعتبرها غنائم حرب لا ترد إلا بعد دفع التعويضات.

   ومن الطريف أن عمو فؤاد الذى عمّر لسنوات طوال فى هذه المدرسة رسب فى آخر امتحان للشهادة الابتدائية نهاية عام 1951. وفى هذا العام تولى الدكتور طه حسين وزارة المعارف العمومية وأطلق مبدأه أن التعليم حق للجميع كالماء والهواء ولكن فى نفس الوقت ليس حكرا على الفاشلين وأن الفرصة متاحة للتلميذ للإعادة مرتين فقط ثم يفصل بعدها، وكانت نهاية زعيم المدرسة الفصل. عز عليه أن يترك المدرسة بعد بقائه بها سنوات طوال نسى هو شخصيا عددها، لذلك حبا والتصاقا بها، أحضر عربة ذات صندوق زجاجى بجوار سور المدرسة ليبيع للتلاميذ والمدرسين فيها السندوتشات والحلويات وأكواب الشاي والمثلجات.
 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter