الأحد ٣ يناير ٢٠١٦ -
٠٠:
١٢ ص +02:00 EET
كتب : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
تقفز إلى ذهني هذه الأيام حكاية تنتمي طرافتها إلى نوعية الكوميديا السوداء كان قد قصها الكاتب الكبير مصطفى أمين وضمنها كتاباته ، الحكاية بدأت بدعوة تلقاها من إحدى الهيئات في دولة عربية في الستينات من القرن الماضي لحضور تجربة هامة رأت تلك الهيئة أنها تريد أن يكون كتاب ومفكري الأمة العربية هم أول الشهود على نجاح إنجاز علمي وتاريخي للهيئة .. وعند الوصول وارتداء المعاطف البيضاء لدخول ذلك الصرح البحثي الرائد جاء أستاذ بكلية العلوم متحدثاً عبر مكبر صوت في أجواء شديدة الخصوصية والجدية التي تناسب الحدث وروعته ،أعلن العبقري أن التجربة ستبدأ وأنهم وضعوا فأر تجارب في قفص على بُعد عشرة كيلومترات من موقع تواجدهم وأنه سيبدأ في تلك اللحظة التاريخية توجيه سلاح سري رهيب اسمه " أشعة الموت " نحو الفأر المسكين ليلقى حتفه فور وصول الأشعة وأعلن بكل ثقة العلماء وشموخهم أن تلك الأشعة تفتك بكل ما تصادفها حتى البشر إلا من ارتدى ثوباً أبيض وهذا سبب ارتدائنا المعاطف البيضاء .. وفي مشهد سينمائي دراماتيكي بدأت ماكينات ضخمة تزأر بصوت كالرعد لمدة خمس دقائق ثم توقفت لتبدأ رحلة شهود التجربة إلى ذلك الفأر المسكين للتأكد من مصرع الفأر .. وكانت المفاجأة أن وجدنا الفأر يتقافز مرحاً وسعادة في قفصه .. وظل الأستاذ العبقري يكرر التجربة مع تقريب المسافة بين الفأر وتلك الآلات العبقرية حتى وصل حد أن جاءوا بالقفص وألصقوه بالآلة الجبارة ولكن الفأر اللعين كان يزداد فرحاً وانتعاشاً في قلة ذوق متناهية .. ويقول كاتبنا الكبير أن هذا الاكتشاف الفضيحة تكلف 63 ألف جنيه ( ولنا أن نتصور قيمة هذا الرقم في الستينات ) .. وأن نصاباً استغل سذاجة وعبط بعض المسئولين عن هذه الهيئة وأوهمهم أن هذا السلاح ممكن أن يبيد إسرائيل !! وينهي الحكاية كاتبنا الكبير مداعباً القراء أنه نسي أن يقول أن الفأر لم يكن يرتدي معطفاً أبيض !!
والحقيقة أنه ورغم مرور أكثر من نصف قرن على حدوث تلك الوقائع ذات الدلالات المؤلمة إلا أن واقع البحث العلمي في مصر والعالم العربي في المراكز البحثية والجامعات يشهد أمثلة كثيرة تقترب ، بل وتفوق مثل تلك الحكايات .. بداية من وحدات ذات طابع خاص في الجامعات بات بعضها مجرد سبوبة للاسترزاق .. إلى مراكز بحثية كبرى يتم الإعلان فيها عن اكتشافات علمية في مجالات مختلفة وخاصة في المجالات الصحية والدوائية ثم يعقبها تصريحات رسمية حكومية تنفي صحة وجود اكتشافات على هذا النحو ، فإذا ما أُضيف إلى ذلك انتشار السرقات العلمية والمؤلفات المنسوخة من على مواقع الإنترنت والدرجات العلمية المزورة أو التي يتم الحصول عليها بمقابل في جامعات في الخارج ، وأيضاً تعيين أهل الثقة بعيداً عن الاحتفاء بالكفاءات وتبني أصحاب الجهود العلمية الخلاقة والمبدعين .. وصولاً لاكتشاف أن هناك حسابات لا نعلمها بعيداً عن الشفافية وسنينها يتم بمقتضاها وضع أبحاث هامة على الأرفف أو في مخازن الهيئات قد يكون " لتسقيعها " حتى يأتي زمن يظهر فيه باحث نصاب ينسبها إلى نفسه ، أو بسبب أن البحث يمكن أن يشكل مخاطر على مصالح تجارية للبعض ..
إنها صرخة يطلفها كل شرفاء الأمة مفادها أن تحقيق التقدم يبدأ من المعمل وإعمال التفكير العلمي وابتعاث المبدعين ، وبعيدا عن "أشعة الموت" إياها التي ترتد إلينا لتنعش فئران التجارب لنصير وطنا للدجالين وأصحاب فتاوى الجهل وعتامات زمن البداوة وطب وأعشاب المشعوذين عبر فضائيات مجرمة ..
الأمر في الحقيقة بات خطيراً ولا يوجد في الأفق ما يطمئن سواء في حالة ضم البحث العلمي إلى وزارة التعليم العالي أو تخصيص وزارة للبحث العلمي .. المشاكل هي هي ومعروفة بداية من افتقار مصادر للتمويل وعدم التواصل مع كبرى المراكز البحثية في العالم وغياب مناخ وقاعدة علمية يمكن أن تخدم هذه الملايين من شعبنا المسكين ..
ولأنه وكما يقول المثل الشعبي " هم يبكي وهم يضحك " فقد أضحكني وأبكاني أن يعلن مسئول جامعي كبير أن جامعته تحشد كل طاقاتها في إطار من الفكر الجمعي والعصف الذهني ( كلام كبير قوي ) .. وظننت أن الحديث بشأن عمل علمي وتعليمي ضخم واتضح أن هذا الفكر وذلك العصف بمناسبة الاستعداد لإقامة احتفالية جامعية !!