بقلم : فاطمة ناعوت | السبت ١٩ ديسمبر ٢٠١٥ -
٤٩:
٠٤ م +02:00 EET
فاطمة ناعوت
هل مرّ شهران؟! كأنه بالأمس فقط حين طار العصفورُ الغِرّيد وقرّر ألا يعود!.
وكأنه بالأمس فقط حين قرأتُ مقال: “إسماعيل المُفترى عليه" بتاريخ ١٥ أغسطس ٢٠١٥، هنا فى "مبتدا". كان آخر ما كتب الكاتبُ الكبير جمال الغيطانى قبل أن يدخل فى غيبوبة طويلة امتدت شهرين كاملين، سبح فيها الرجلُ الجميل فى لُجّة وثيرة ناعمة من الراحة الصوفية الاستشرافية، ودخلنا نحن فى رحلة مريرة من القلق المخيف من فقدان رمز ثمين من رموز مصر النفيسة التى لا تُعوّض.
قرأتُ مقاله الأسبوعى كعادتى، وما كنتُ أدرى أنه الأخير، وإلا خاصمته. أمسكتُ هاتفى وكتبتُ رسالة أقول له فيها إننى مثله أحبّ الخديوى إسماعيل وأرى أن التاريخَ الكذوب قد ظلمه، وشوّش عليه فى مدارك العوام، مثلما ظُلم كثيرون من حملة المشاعل التنويرية.
لم يأتنى ردٌّ، فقلتُ علّه فى بعض شأنه ومشاغله. كنتُ فى أقصى غرب أمريكا وبينى وبين وطنى العزيز وبين أستاذى أميالٌ وجبال وصحارى ومحيطاتٌ، وبيننا فارقُ توقيت يجعل الشمسَ تُشرق فوق شرفته قبل أن تشرق فوق شرفتى بكاليفورينا بتسع ساعات.
علّها فروق التواقيت ما أخّر ردّه على رسالتى؟ علّه لم يقرأها؟ وتذكّرت مقولة محيى الدين ابن عربى: “الكلامُ على الكلامِ صعبٌ"، وسألتُ نفسى: هل الكتابةُ على الكتابة صعبةٌ أيضًا؟ ماذا لو كتبتُ رسالتى الهاتفية فى مقالٍ أتحاور فيه مع مقاله عن إسماعيل باشا؟! ما حاجتنا نحن الكُتّاب إلى رسائل الهواتف طالما بين أصابعنا أقلامٌ تجرى فوق أوراقنا، نحاورها ونُملى عليها أحلامنا وشجوننا وما يجيش فى أعماقنا من أفكار! سأكتبُ مقالا على مقال، وأقول رأيى الذى ضاقت به رسالة موبيل لم يردّ عليها الأستاذ.
ولكننى لم أكتب ذلك المقال أبدًا.
فى صباح اليوم التالى طالعتُ الصحف المصرية والعربية فوقع الخبرُ على قلبى كصاعقة صادعة. الأستاذ جمال الغيطاني أصيب بجلطة في القلب ودخل في غيبوبة كاملة لا يدرى الأطباءُ متى يخرج منها! لماذا يمرض المبدعون الذين يحملون الحُلم للبشرية؟ لهذا إذن لم يردّ على رسالتى، ولم يقرأها. مازالت فى ذاكرة هاتفه بعيدة عن عينيه الطيبتين.
بالأمس قرأت التالى:
“إنه حقا علمٌ مميز وأيقونة لها خصوصيتها فى تاريخ الأدب العربى، انطلق فى كتابة روائعه عبر أفكار عميقة مستقلة، ولولا رحيله عن عالمنا تاركا حزنا شديدا فى نفوسنا، لصار على الأرجح مؤهلا للحصول على جائزة نوبل فى الأدب". مَن قال هذا الكلام؟ أدباء وأكاديميون من الصين، إحدى ربّات الفلسفة والآداب. ثم أوصى خبراء الأدب الصينيون ونقاده ومبدعون أبناءهم من شباب مبدعى الصين وأدبائها بالتعمق أكثر وأكثر فى روايات الغيطانى وأعماله التاريخية لكى يثروا ويتطورا ويتعرّفوا على روح الشرق الخبيئة داخل سطوره.
ها قد أوشكتْ مساحةُ المقال على النفاد، ولم أكتب كلمة عن الخديوى إسماعيل كما كنتُ قد عقدتُ العزم قبل جلوسى إلى مكتبى لكتابة هذا المقال. سرقنى الغيطانى ككاتبة وأرغم قلمى على الكتابة عنه، كما سرقنى قارئةً منذ وعيت عيناى على دنيا الأدب. أيها الجميلُ الذى دخل فى رحلته الصوفية ولم يعد إلينا لأنه وجد عالمًا أجمل، ثق أنك قد حصدت ما هو أرفع وأجمل من جائزة "نوبل"، لقد حصدت قلوب المصريين والعرب، والصينين وكل مثقفى العالم.
نقلا عن مبتدا
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع