الأحد ١٣ ديسمبر ٢٠١٥ -
٤٩:
٠٧ م +02:00 EET
فاروق عطية
استغرقت فى تفكير عميق، أحاول أن أعي وأفهم وأتدبر، أحاول أن أسترجع الماضي وأحلل مدلولاته، علني أستطع ثبر غور أمراضنا المزمنة، حتي نجد حلولا لها، كي يحين أوان التخلص منها:
منذ أكثر من نصف قرن مضى ونحن دائما نلصق كل سلبيتنا بالاستعمار، إذا أخفقنا اقتصاديا وتدهورت عُملتنا، قلنا إنها من آثار الاستعمار. إذا ازداد الجهل والفقر والمرض عزونا ذلك لطول ما عانينا من الاستعمار. باختصار كل ما نعيشه اليوم من إخفاق وتدنى وفشل فى شتى المجالات، حتى فشلنا السياسى فى توحيد كلمة العرب نرده للاستعمار ! مع أن الاستعمار قد ولٌى وذال من ستين عام مضت، ورغم ذلك ما زلنا نعانى، بل أصبحنا أشد فقرا وبؤسا، وأكثر مرضا وجهلا. قبل حركة ضبلط 23 يونيو، كان بمصر طبقة الاقطاعيين والباشوات، والطبقة الوسطى التى تتكون أساسا من موظفى الدولة وأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة، التى كانت تعيش فى طمأنينة ويسر وخرج منها جميع مثقفى وفنانى مصر العظام، والطبقة الفقيرة وكانت تعانى قسوة الحياة. بشرتنا حركة ضباط 23 يوليو عند قيامها، بحياة ملؤها الرفاهية والسعادة. وعَدَت كل عامل بسيط بالسيارة والسكن والرفاهية، وبشرت الفقراء بلا فقر بعد اليوم، الكل في يسر ولا عسر. وها نحن اليوم نحصد الشوك، كانت عملتنا الأقوي بين عملات العالم، الجنيه المصري يعادل خمس دولارات أمريكية، واليوم الدولار الأمريكي يلا حسرة يعادل ثمان جنبهات مصرية. وثروات مصر موزعة بين الحيتان وناهبى البنوك، وباقى الشعب حتى كبار الموظفين ـ عفيفى اليد ـ لا يملكون تسيير حياة يومهم. قالوا إرفع رأسك يا أخى لقد ولٌى عهد الاسعباد، فرفعنا رؤوسنا حتى عنان السماء، ثم أحنيناها تحت ذل لقمة العيش ولهيب القهر والديكتاتورية والاضطهاد والنكسة العسكرية حتي طالت الأرض.
حين بدأت نهضة مصر على يد محد على باشا، اعتبرتنا اليابان قدوة لها وأرسلت المبعوثين للاستفادة من التجربة المصرية الرائدة للاقتداء بها. كيف وصلت اليابان اليوم لهذا التقدم التكنولوجى والاقتصادى المزهل وما زلنا نحن محلك سر؟ إذا كنّا قد تعرضنا للاستعمار، فهم أيضا خاضوا حربا ضروس، وضُربوا بالقنابل الذرية فى هيروشيما وناجازاكى، ودُكت مدنهم ووقعوا تحت نير الاستعمار الأمريكى، لكنهم نفضوا تراب التواكل وانطلقوا فى البناء حتى صاروا منافسين بل ربما سباقين للمارد الأمريكى فى الاقتصاد والتكنولوجيا. ما السبب؟ لماذا لا نعترف ولو لمرة واحدة أن العيب فينا ويكمن داخلنا ولا دخل للاستعمار فيه، ونواجه أنفسنا بالحقيقة بدلا من إلقاء اللوم على الغير؟ هذا المرض الكامن داخلنا ونصرّ على إعفاء أنفسنا من اللوم ونسقطه لا إرديا على الغير، يجب التخلص منه سريعا، والبحث عن السبب الحقيقى لكل الكوارث، وهو فى رأيى ببساطة شديدة استبدالنا الاستعمار الأجنبى باستعمار آخر داخلى أشد قسوة وتأثيرا، حطم إرادة الشعب وغيب وعيه وكبل قواه فبات عاجزا، آلا وهو الاستعمار الديكتاتوري التى نُكبنا به منذ قيام حركة الضباط، كما نُكبت بها معظم الدول العربية وكنا القدوة لهم، وما زلنا تحت نير الفاشية العسكرية المتحالفة مع الفاشية الدينية تطحننا تحت عجلاتها حتي اليوم.
مرض آخر ينخر فى عظامنا ويعم جميع الوطن العربى، هو كثرة استخدام لفظ الخيانة وتراشقه بدون مبرر وجدية حتى بات بلا مدلول حقيقى. عندما نخسر معركة من المعارك لا نبحث عن أسباب خسارتنا ونبادر بالتبرير السهل ونعللها بالخيانة، نبادر باتهام بعضنا البعص بالخيانة. نعم ممكن أن تتواجد الخيانة، ولكن ليست فى كل الأحوال وجميع الأمور.
عندما دخلنا الحرب ضد العصابات الصهيونية فى كارثة 48 ، استطعنا مطاردة فلولهم، خاصة الجيش المصري تحت لواء مليكه المعظم فاروق الأول، حتى مشارف تل أبيب. وعند ما فرضت الهدنة استغلتها إسرائيل فى تقوية جيشها خاصة سلاح الطيران الذى كان نقطة ضعفها، واستجلبت المتطوعين من جميع أنحاء العالم. أما نحن فلم نستعد أو نطور جيوشنا، بل تراشقنا الاتهامات، وضاع جهد قادننا وأموالهم علي موائد القمار والجري وراء الحسناوات. واستأنفنا الحرب بعد الهدنة فخسرناها، وعللنا الخسارة بخيانة الملك عبد الله وأسلحة مصر الفاسدة.
بعد خسارة حربنا مع إسرائيل عام 1967 التي أطلقنا عليها النكسة، بسبب عدم حنكة عبد الناصر السياسية، ورعونة قائد الجيش عبد الكريم قاسم العسكرية. جاهدت مصر شعبا وجيشا لمحو أثر الهزيمة، واستطاع السادات بدهائة العسكري أن يلقن إسرائيل درسا لا ينسي في حرب الكرامة 1973، واستخدم حنكته السياسية عندما ذهب إلى كامب ديفد مطالبا بتحرير ترابنا المقدس فى سيناء، وفي نفس الوقت طالب بحل القضية الفلسطينية، وُصف عمله بالخيانة، وها هى الأن جميع الدول العربية تلهث جريا لتحذو حذوه، ويطالب الفلسطينيون بنصف ما كان السادات يطالب لهم به وهيهات أن يطولوه.
عندما استغل الملك حسين حنكته السياسية وسبح بين أمواج الديبلوماسية الهادرة للحفاظ على سلامة وطنه وعرشه وعندما جنب وطنه الضياع في أيلول الأسود، حيث اعتبرت الحكومة الأردنية أن تصرفات بعض المجموعات الفلسطينية تشكل تهديداً للحكم الهاشمي في الأردن. وأعلنت حالة الطوارئ وتحرك الجيش الأردني بناءً على تعليمات الملك حسين بن طلال آنذاك ومستشاريه العسكريين لوضع نهاية لوجود المنظمات الفلسطينية التي بأعمالها الاسفزازية المتكررة تهدد كيان ووجود الأردن نفسه، نعت الملك حسين بالخيانة أيضا.
وعندما لم تساند بعض الدول العربية العراق فى حربها ضد الحلفاء فى حرب الدهشة والرعب، نعت ديكناتور العراق هذه الدول بالخيانة، ولم ينظر للأمر بمنظار واقعى وعادل، غافل عن الحقيقة، أننا أصبحنا عاجزين أن نقف فى وجه قوة عظمى بقدها وقديدها لنساند نظام فاجر لم يراع حتى حرمات شعبه وأهل بيته، وأذاقهم القهر والموت والخوف. وعند سقوط يغداد، دُبجت السينايوهات التى تعزى السقوط ، لخيانة طارق عزير تارة، ولقادة الحرس الجمهورى تارة أخرى، مع أن الحقيقة واضحة وجلية، وليس فى الأمر خيانة ولا يحزنون. وأنا أرى فى تحليل العميد الركن السابق بالجيش العراقى صبحى ناظم توفيق والباحث فى مركز الدراسات الدولية حاليا كل المنطق حيث يقول محللآ: استخدام الأمريكان التكنولوجيا الفائقة التطور باستهداف مواقع محددة جدا وقصفها بدقة وعنف، والتى عطلت الخطة التقليدية للجيش العراقى، والمتمثلة فى جر الغزاة إلى حرب الشوارع. إن عملية تدمير القوات العراقية فى محيط بغداد وداخل المدينة، بدأت منذ بداية الحرب واستمرت على مدى الأربع والعشرون ساعة يوميا طيلة أيام المعارك. وعند وصول القوات إلى مطار بغداد كان قد تم تدمير كافة وحدات ومواقع الحرس الجمهورى المحيط بالعاصمة. حتى قوات الحرس الجمهورى الخاص التى كانت تعتبر القوة الأقوى كانت تجهيزاتها متواضعة قياسا بالقوات الغازية. إضافة للتدفق الجوى الكاسح للحلفاء وانعدامه تماما فى الجانب العراقى مما شكل العنصر الحاسم فى المعركة. الخطة العراقية كانت مبنية على حدوث دمار واسع يخلق ركاما وأطلالا تملأ الشوارع والطرقات مما يعيق تقدم القوات المندفعة، لكن الأمريكان لم يلجأوا إلى ذلك بل استخدموا اسلحة فائقة الدقة وانتقائية تستطيع إصابة نقطة محددة فى الموقع الستهدف ، ولم يك هذا فى حسبان المخططين العسكريين العراقيين. ووصف توفيق الاختراق الذى حدث فى المطار الدولى بأنه كان مباغتا فوجئت به قوت الدفاع المتواجدة بالمطار. دخل الأمريكيون عن طريق غير متوقع للقوات العراقية، هو طريق اللطيفية الرضوانية القريب جدا من المطار، والذى كانت جميع القطاعات العسكرية فيه قد دمرت تماما بالقصف الجوى. إنطلقوا من منطقة جسر المسيب باتجاه اللطيفية وحى المطار، وحين خرجت قوات الحرس الجمهورى الخاص للهجوم أُبيدت كلها قبل أن تصل. ومنذ لحظة هذا الاختراق الكبير قام الأمريكيون بالانتشار سريعا فى أطراف بغاد خصوصا تجاه الغرب. ثم توجهوا لمنطقة سبع البور ومنه إلى طريق بغداد ـ سامراء وانتشروا فى الضواحى مخترقين قلب بغداد، مستبعدا تماما سيناريوهات الخيانة والصفقة التى يروجها البعض.
المرض الثالث هو استخدام القضية الفلسطينية واستغلالها كمسمار جحا لفرض الديكتاتورية والبقاء فى الحكم. والزعم بأن الحكم العسكري ضروري، وتسخير قوي الشعوب العربية لتحقيق الحلم العريبي المشترك بعودة فلسطين عربية:
أنفقت مصر معظم دخلها القومى فى التسليح وتقوية جهاز المخابرات بحجة الاستعداد لخوض معركة المصير ضد إسرائيل ومن يقف خلف اسرائيل. وكون صدام جيش خاص أسماه جيش القدس لتخليص القدس من الصهاينة، وأنفق الكثير من دخل البترول لتكوين جهاز مخابرت قوى. ونفس الشيئ فعلته سوريا. والنتيجة كانت للأسف استنهاك الجيش المصرى فى حرب اليمن، وعنما دخلنا حرب 67 لم نصمد أكثر من ساعات. واستنهك جيش العراق فى حروب ضد إيران، ولم يصمد أمام الغزو الأنجلو أمريكى سوى أيام ولم يدخل أى معركة ضد إسرائيل. واستخدم الجيش السورى فى قمع المعارضين فى حلب واستعمار لبنان. والأن يكابد العثرات في الحفاظ علي ربع سوريا، وهجرة أكثر من عشرة ملايين للخارج. كما استخدمت إمكانيات المخابرات فى الدول الثلاث لتعقب المعارضين فى الداخل والخارج وفتح المجازر الرهيبة المزودة بأبشع أدوات التعذيب الوحشى. أما مشكلة فلسطين التى تشدقوا بها وجعلوها مخلب قط لهم للأسف سارت من سيئ لأسوأ بفضل تدخلاتهم. اتركو فلسطين للفلسطينيين فهم أقدر وأدرى بما يعملون "فأهل مكة أدري بشعابها" ويحتاجون فقط منكم التمويل والمساعدة الديبلماسية الفاعلة، أما استخدامها لأغراض ديكتاتورية فهو مرض آن الأوان للتخلص منه.