بقلم: د. يحيى الوكيل
فى أيام قليلة، قُصفت أقلام عدد من الإعلاميين ذوى الشعبية العريضة– وهذا ما يعترف به كل منصف حتى وإن اختلف معهم أو مع بعضهم فى الرأى أو الإسلوب- فى مذبحة إعلامية كمذبحة القلعة التى نصبها والى "مصر" وبادئ نهضة العصر الحديث فيها: "محمد على باشا".
الفرق بين مذبحة القلعة ومذبحة الإعلام، أن الأولى كانت للتنوير والثانية للتعتيم.
فوجئ الجميع قبل أيام بوقف قناة "أوربت" ومعها برنامج "القاهرة اليوم" الذى كان يقدِّمه الأستاذ "عمرو أديب" ومعه بعض من الصحفيين، معظمهم إن لم يكن كلهم من المحسوبين على الكيانات الصحفية "القومية"– أى الحكومية.
وقد نال الأستاذ "عمرو أديب" شعبية عريضة، قد يستغربها البعض لكونه يظهر فى قناة مشفَّرة تستلزم اشتراكا قد لا يقدر عليه الكثير ممن يمثلون الأعم الأغلب من جمهوره- وهم الأعم الأغلب لأن الأستاذ "عمرو أديب" قد اختار لغة حوار قريبة منهم، وأسلوبًا ليس بعيدًا عن فهمهم، حتى وإن خالف أسلوبه ولغة حواره دور الإعلام الحقيقي كما أراه أنا على الأقل وقد يوافقني غيري، وهى رؤية تجد رسالة الإعلام فى التنوير والتعليم، وإرقاء مفاهيم العامة والدهماء وليس النزول إليهم.
عمومًا نجح الأستاذ "عمرو أديب" من خلال هذه الشعبية فى إثارة عدد من المواضيع الساخنة، وبدرجة عالية من المهنية، حتى أصبح ما يقدِّمه مادة لاهتمام السلطة الحاكمة. وبدأت لعبة القواعد والحدود والتى لعبها الأستاذ "عمرو أديب" بالكثير من المهارة، فألزم نفسه- أو إلتزم، أو تم إلزامه- بخطوط حمراء لم يتعداها، ضامنًا لنفسه السباحة بين أسماك القرش بدون أن ينله منها العضيض.
إلا أن إحدى السوابح الكواسر فى مياه السياسة المصرية أصابها ما يبدو وكأنه "جنون الغذاء" الذى يصيب أسماك القرش فى المحيط، فتندفع فى العض والنهش حتى لتعض نفسها أحيانًا. ولقرب الأستاذ "عمرو أديب" من تلك السوابح كان أول من أُصيب فى حالة الهياج، فلا أحد يعلم بالضبط ما هو السبب المباشر الذى يمكن أن يكون قد أطاح به؛ فهناك تكهنات بحلقة المستشار "أحمد ماهر"- وهو الرافض لتقديس ما جاء فى كتب البخارى للأحاديث- والتى قد تكون قد أثارت المؤسسة الدينية فى "مصر"، والعقاب الذى حاق بالأستاذ "عمرو أديب" إنما هو جزء من صفقة بين المؤسسة الدينية والسلطة الحاكمة لضمان الولاء الكامل من الأولى للثانية، وهناك غير ذلك من التكهنات أطرفها أن ميول "عمرو أديب" الزملكاوية هى السبب، أو ربما قد يكون أثار غضب الأستاذ "مرتضى منصور".
المثير للفضول، هو الوجهة التى اختارها الأستاذ "عمرو أديب" للنفى الاختيارى لحين معرفة نتائج الأزمة، ألا وهى "لندن". فهذه المدينة لمن لا يعرف هى الوجهة المفضلة للمغضوب عليهم من التيار الدينى المتشدد- كما حدث لـ"عمرو خالد" مثلاً؛ كذلك هى المنفى الاختيارى لأصحاب العبَّارات الغارقة، والديون المنهوبة، والجواسيس المزدوجة، وغيرهم، وغيرهم.
وهى أيضًا المدينة التى شهدت العديد من محاولات الطيران الفردية من شرفات المنازل، والتى لم ينجح أي منها، وانتهت كلها بموت أصحابها بداية من "الليثى ناصف"، وانتهاء- فى الوقت الحالى – بـ"أشرف مروان".
استمرارًا لمذبحة الإعلام، تم منع الدكتور "علاء صادق"- المعلِّق الرياضىي المعروف والمختلف عليه كثيرًا- من الظهور على شاشات القنوات الحكومية؛ وذلك لانتقاده لأداء الأمن المصري فى محنة تخريب مدرجات استاد "القاهرة" التى كان يشغلها بعض من مشجعي فريق الترجي التونسي أثناء مباراته مع فريق الأهلى المصري لكرة القدم.
لقد كانت جريمة الدكتور "علاء صادق"- من وجهة نظر وزير "الإعلام"- أنه حَمَّل وزير الداخلية مسئولية ما حدث، وهذا فى رأيي أخطر ما يمكن حدوثه: أن تكون هناك جهة من جهات السلطة التنفيذية منزَّهة عن النقد، وليس عليها أى قدر من المسئولية تجاه الشعب.
إن أهم قواعد الديمقراطية هى أن أى وزير يتحمل المسئولية السياسية عن أداء وزارته والعاملين فيها، وربما كان على بعض- أو معظم، أو حتى كل – المسئولين الحكوميين مراجعة مناهج التربية القومية ليفهموا هذه النقطة، وقد كان أداء الأمن المصري مهزوزًا بدرجة كبيرة فى حادثة الشغب المشار إليها.
التحليل النقدي للأحداث، ورد فعل الأمن المصري، يوضِّح غياب "التوجيه" الواضح الذى يحتاجه الضباط للتعامل مع الموقف، والتوجيه مسئولية قيادة الضباط ممثلة فى أعلى قيادات وزارة الداخلية وهى الوزير نفسه. البداية من التراخى فى تفتيش المشجعين التوانسة لدى دخولهم إلى الاستاد بنفس الدقة التى يتم بها تفتيش المصريين تكشف بسهولة وجود تعليمات بالتساهل حتى لا تتكرر مرارات مباريات الفريق القومي لكرة القدم مع الفريق الجزائري.
رد فعل قوات الأمن على شغب بعض الجماهير التونسية كان متردداً و مُحَجَّمًا، وساهم ذلك فى تردي الموقف إلى ما صار إليه. والحقيقة أن فى غياب التوجيه الواضح يصعب التفريق بين الضعف وبين ضبط النفس، فاستخدام القوة سهل، وضباط الداخلية لهم خبرة عريضة فى طحن الشعب المصري، ولم يكن ليصعب عليهم- وبالحق هذه المرة- تأديب الحثالة من القلة من مشجعي النادي التونسي بالقوة، وهم قلة فعلاً هذه المرة وليست "القلة" التى يتكلم عنها الإعلام كلما خرجت مظاهرة احتجاج ضد الحكومة.
إذن فغياب التوجيه كان السبب فى الضعف الذى ظهرنا عليه، وفى تردي الموقف إلى ما صار إليه، وقد تم منع الدكتور "علاء صادق" من الظهور على شاشات التليفزيون الحكومي- ولا أسميه التليفزيون المصري- لأنه أشار إلى ذلك، ولأنه حدَّد المسئول عنه.
حتى الإعلام المعارض ناله من المذبحة نصيب، فتمت إقالة الأستاذ "إبراهيم عيسى" من رئاسة تحرير أحد أهم جرائد المعارضة وهى جريدة "الدستور" لأسباب لم تُعلن بوضوح، وإن كانت أقوال قد ذكرت نيته فى نشر مقال للدكتور "محمد البرادعى"- ومعارضته للنظام الحاكم معروفة- وأن هذه النية رفضها رئيس مجلس إدارة الجريدة، وصاحبها الجديد، ورئيس حزب الوفد المعارض.
غريب أن يُقال رئيس تحرير جريدة معارضة لمجرد نشر مقال معارض، وهو نفسه قد تخطَّى الحدود قبلاً واصطدم مع السلطة الحاكمة لدرجة الحكم عليه بالسجن ولم يُقال أو تُطلب منه الاستقالة فى ظل الإدارة والملكية السابقة للجريدة، وهو ما يعنى تأكيد ما ذهبت إليه قبلاً من أن حزب "الوفد" قد تم تدجينه من السلطة الحاكمة وتلميعه حتى على شاشات التليفزيون الحكومي باستضافة المتنافسين على رئاسته فى أهم البرامج الحوارية، وذلك ليكون حزب الوفد بديلاً فى الانتخابات المقبلة للإخوان المسلمين.
المهم هنا هو وصول سطوة السلطة الحاكمة إلى فرض رأيها حتى على الصحف المعارضة، ولا تدرى أين سيذهب بنا هذا، ولا من يصبه الدور بعد ذلك.
لقد شحذ "الحجاج" سيفه وبدأ بإطاحة الرؤوس لإبلاغ ما يريد إبلاغه من الدروس؛ فما هى الدروس التى نستخرجها من المذبحة – أو بداية المذبحة، فمن يدرى من تطوله بعدها؟
ما هو الخط الإعلامى الذى تتبناه السلطة الحاكمة؟
الإجابة على السؤالين السابقين يمكن تلخيصها فى النقاط التالية:
- لم يُعد مسموحًا الاقتراب من أى قضية ساخنة مهما كانت فى هذه الأيام على الأقل.
- هناك حصانة لوزارة الداخلية تفوق حصانة الذات الإلهية، وذلك لدور وزارة الداخلية فى الإنتخابات القادمة، واعتماد السلطة الحاكمة عليها فى اخراج نتيجة الإنتخابات بالشكل الذى تريده السلطة الحاكمة.
- لا تتوقعوا وجود حزب حاكم ومعارضة تحت قبة المجلس النيابى القادم، فالكل سيكون من "الحبايب" والمرضى عنهم.
- كل خرسيس نرسيس من المثقفين والعلمانيين من "الأراذل" هو هدف بدرجة أو بأخرى، مهما كبر قدره – وبالأحرى مهما صغر شأنه.
- أوقف الحزب الحاكم ديمقراطية النباح – وهى نوع الديمقراطية الخاص بالسلطة الحاكمة، والتى كانت تسمح فيها لمثلى وغيرى أن نقول ما نشاء طالما لا يستمع إلينا أحد، وتسمح فيها للكبار من الكتاب بقول ما يشاءون طالما يستمع لهم الناس ولا يفعلون شيئًا.
أى أن المطلوب من الكل الآن السكوت.
و لا عزاء فى الديمقراطية.