الخميس ١٠ ديسمبر ٢٠١٥ -
٣١:
٠٦ م +03:00 EEST
كتب : د. أحمد الخميسي
في 28 نوفمبر كان الكاتب الكبير إدوار الخراط مازال في المستشفى، وكان عندي أمل، بل كنت واثقا أنه سيجتاز الأزمة الصحية، واثقا ربما لأننا لا نصدق أبدا إمكانية وقوع ذلك الحدث اليومي المتكرر: موت الأحباء. كان يوم سبت حين بدأت أكتب عنه بعنوان " إدوار الخراط .. سلامتك"، كنت أكتب وأنا سعيد بتخيل ملامح وجهه وهو يمسك بالصحيفة ويقول لمن حوله بسرور:" والله أحمد ده فيه الخير. شوف كاتب إيه؟". وعندما قررت دفع المقال للنشر يوم الأربعاء وافاني خبر رحيله، فتهدمت روح المقال وانطفأت. تعرفت إلي الخراط مبكرا، عام 1967وأنا في مطلع حياتي الأدبية. في تلك السنوات كانت هناك ثلاث مجموعات قصصية مقدسة لمن يريد أن يكتب القصة القصيرة:"أرخص ليالي" ليوسف إدريس و"العشاق الخمسة" ليوسف الشاروني، و" حيطان عالية" التي صدرت 1959، ووضعت الخراط بصفته من آباء القصة القصيرة الحديثة، وليس كما يعتقد البعض من جيل الستينات، وهو اعتقاد نجم من علاقته الوثيقة بكتاب وتمرد وتجربة ذلك الجيل الفكرية والأدبية. وكنت قد قرأت بانبهار" حيطان عالية" ولفت نظري ليس فقط الإحكام الأدبي بل والمقدرة الباهرة التي تتحول اللغة بفضلها إلي سن سكين، فتكاد الكلمات أن تشق الورق.
فيما بعد قال لي الخراط ذات مرة إنه يقرأ صفحتين يوميا في أحد معاجم اللغة العربية مثلما يقرأ الروايات. أحببت الخراط حينذاك، لكني لم أكن قد التقيت به شخصيا حتى التحقت بالعمل في منظمة التضامن الآسيوي الإفريقي عام 1967، وكان يترأسها يوسف السباعي. كنا ثلاثة اعتبرنا السباعي مشاريع أدباء شبابية فألحقنا بانعمل: أنا، وأمل دنقل، وأحمد فؤاد نجم. لم نكن نذهب إلي الشغل إلا فيما ندر، أو بعد الحادية عشرة صباحا، ثم لا نطيل الجلوس اعتمادا على أن السباعي قام بتوظيفنا لأننا ننتمي ولو كان انتماء غامضا إلي عالم الأدب. نتيجة لتغيبنا بدأب وانتظام عن العمل استدعانا السباعي نحن الثلاثة إلي مكتبه ذات يوم وأغلق باب الحجرة وصاح فينا:"أنتم بتغيبكم المستمر هذا ستؤلبون على كل الموظفين الذين يتساءلون: لماذا يتمتع أولئك الثلاثة وحدهم بالتغيب من دون محسابة؟ لهذا أقول لكم إما أن تحضروا إلي العمل بصفة منتظمة أو تجلسوا في بيوتكم، وعلى الطلاق بالثلاثة ستصلكم رواتبكم حتى باب البيت، هذا أوأفصلكم وأستريح". لم ندر ماذا نقول، لكن أحمد نجم أسعفنا فقال للسباعي ببسمة واسعة:" لكنك إذا فصلتني الآن يايوسف بك فستكون المرة الثالثة؟". استفسر السباعي:" وإيه يعني الثالثة ولا الخامسة؟".
قال نجم " لاء. بعد ثالث مرة يحتاج الأمر إلي محلل لأعود إليك"! قهقه السباعي وصرفنا منذرا محذرا. حينذاك كان إدوار الخراط المسئول الثاني في المنظمة بعد السباعي، فدعانا إلي حجرته وقال لنا:" يوسف بيه بيخوفكم بس. لكن مش ممكن يفصل حد". فشد أمل دنقل قامته بكبريائه المعهودة مستشهدا على بؤس الوظيفة ببيت شعر من عبد الحميد الديب: " بالأمس كنت مشردا أهليا واليوم صرت مشردا رسميا". فتنهد الخراط تنهيدة تضامن وتفهم ولم يقل شيئا. حينذاك بدأت علاقتي بالخراط في تلك مقر منظمة التضامن بفيللا من طابقين في المنيل. وأخذ يدعوني إلي منزله في الزمالك وكان يحيي الطاهر يحضر أحيانا. في حينه كان الخراط قد بلغ قدرا كبيرا من الشهرة أديبا وناقدا ومترجما فذا لعدد كبير من الأعمال المهمة. لكنه امتاز أيضا بأنه كان من أكثر الأدباء الكبار عطفا على تجربة وتخبط أبناء جيل الستينات واهتماما بهم على المستوى الشخصي والموضوعي، وكان وثيق الصلة بمعظمهم. وكانت تجربة اعتقاله قبل الثورة وشعوره بالاحباط من العمل السياسي قد قادته إلي طريق آخر، يجد فيه روحه الوثابة الثائرة لكن بصفته مفكرا ومنظرا أدبيا يفتح للأدباء الشباب دروبا مغايرة بحديثه عن" الحساسية الجديدة" و"الكتابة عبر النوعية".
وأظن أن الخراط كان يحاول أن يعوض بالثقافة ما لم تسمح به الظروف في العمل اليساري الذي انتمى إليه في الأربعينات،ومن ثم كان يتخذ في أحيان كثيرة هيئة"الأب الروحي"الراعي للتجارب الجديدة الذي أدار ظهره للماضي وثبت بصره على المستقبل. وبذلك الصدد جاء على لسانه : "قمت في فجر شبابي المبكر بالعمل السياسي المباشر، العمل السياسي الثوري، المناهض للنظام الملكي القديم، واعتقلت سنتين أو أقل قليلا في أيام فاروق.. لكن بعد هذه التجربة .. وجدت أن المجال الوحيد الحقيقي الذي أتصور أنني يمكن أن أفعل فيه شيئا، أو يمكن على الأصح أن يلبي الاحتياجات العميقة عندي، هو مجال الأدب والإبداع الروائي بالذات". وعندما أدار الخراط ظهره للماضي، كان بقدر ما يدير ظهره إلي الأمل، وإلي الإيمان بطاقات الجموع، واستولى عليه وهو فرد وليس جزءا من حركة عامة شعوره بالإجحاف الشخصي، وربما بالتمييز الطائفي، مبتلعا ثقته في حقه في الاحتجاج العام، فتفادى المعارك الاجتماعية والفكرية العامة خلافا لاشتباك يوسف إدريس وغيره مع القضايا الساخنة.
وضاعف من ابتعاده حساسيته الخاصة جدا كأديب وإنسان يشبه جهازا دقيقا رفيعا معدا لاستقبال وإرسال أنبل المشاعر والأفكار وأصدقها. لم أسمع منه مرة واحدة عبارة لم يكن يثق في فحواها، ولم أره يوما يتزلف إلي سلطة أو موقع، ولم أشهده يتقرب إلي أجهزة الدولة الرسمية بالرغم من عمله في قلب تلك الأجهزة. أذكر حينما غادرت مصر إلي روسيا للدراسة أنه جاء في زيارة إلي موسكو، ومرض، وكنت أتردد عليه في المستشفى، فقلت له ما نقوله عادة من دون تفكير:"سلامتك.. إن شاء الله العدوين"، فضحك وهز كفيه في الهواء نافيا:"لا يا أحمد.. احنا لا نتمنى شيء وحش حتى للعدوين"! أذهلتني عبارته وجعلتني أتوقف نهائيا عن ترديدها فيما بعد. وعندما عاد إلي القاهرة كتب لي خطابا يقول فيه : " القاهرة في 7 نوفمبر 1988.. عزيزي أحمد .. لست أدري كيف أعبر عن شكري لك لعنايتك بي ولاحتفائك ولا عن إعزازي ومحبتي. أصبحت موسكو الآن مرتبطة بوجودك بل أصبحت أحبها لأنك موجود بها. أرسل لك نماذج من كتبي ولك مطلق الحرية في أن تتصرف بها كما تحب، سواء أعطيتها لفاليريا كيربتشنكو أو لك أو كليهما ( كيف؟). سأسافر غدا صباا إلي تونس لحضور مؤتمر اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وسألتقي هناك بأولجا فلاسوفا وسأهديها " الزمن الآخر"، و" ترابها زعفران". إلي أن نتلقي لك خالص محبتي. إدوار".
يعود إدوار الخراط إلي ترابها الزعفران، محاطا بالمحبة، والتقدير العميق لرحلته الطويلة، لرواياته وقصصه الجميلة، وحياته النزيهة التي لم يلطخها بإحناء رأسه أمام السلطة. يرحل تاركا لنا ثروة تتألف من أكثر من ثمانين كتابا ما بين التأليف والترجمة والابداع الروائي والقصصي والدراسات النقدية. يحطم الموت القلم ولا يحطم الورق. وتظل أصوات قصائده ورسومه وأعماله وحساسيته وترفعه الانساني وتعلو في الثقافة والضمير. وداعا أيها الانسان الجميل العزيز .. وداعا أيها الكاتب الكبير.