بقلم: لينا خوري ـ سوريا
 
   نحن أمام شرعة..
   الرسول متّى وضعنا في مشهد استقرائي بين الماضي والحاضر، جموع الشعب تسمع للسيد المسيح الواقف على الجبل، كما فعل موسى في الماضي أمام شعبه على سيناء. ولكن موسى كان حامل كلمة الله أي وسيط، محتجب، أما السيد المسيح فهو المعلم وجهاً لوجه، وهو الكلمة.
   التطويبة الخامسة والوسطى في الشرعة التي أطلقها السيد المسيح في بداية دعوته الخلاصية، تجسد مسيرة روحية من العهد القديم إلى الجديد، كلمة الرحمة في الكتاب المقدس مشتقة من معنيين، الرحمة والأمانة، أي علاقة كيانية روحية مرتبطة بين الخالق والإنسان، تتكرر في سفر المزامير وأدب الحكمة: "انصرني أيها الرب إلهي، وبرحمتك خلصني (المزمور26).
   السيد المسيح لم يفتتح شرعته بهذه التطويبة ولم يختتمها بها، وكأن به يقول إن الرحمة مسيرة حياة روحية ومادية تنطلق من داخل الإنسان إلى القريب، وأولها المسامحة ومغفرة خطايانا كما في الصلاة الربية، ونجدها في أمثال السيد المسيح مثل العبد العديم الشفقة.
   أحبائي، الناس تتراكض للمشاركة في السعادة، ولكن المشاركة في التعاسة التي يعانيها الآخرين يختص بها فقط الذين يمتلكون الحب والرحمة، كما في مثل السامري الرحيم.
   فالرحمة هي مكافأة بحد ذاتها، ويسوع يعلن أن مكافأة الرحيم هي رحمته من الله؛ فهي تمنحنا نفاذ البصيرة الروحية، الموشاة بالفرح الروحي بمشاهدة انعكاس وجه الله على صفحة النقاء داخلنا، كوجه الماء الصافي.
   الرحمة تولّد المحبة الممزوجة بالحزن أمام ألم الآخرين، كما يقول الآب: "كونوا رحماء لأن أباكم رحيم (لوقا).
   في كل صلواتنا الليتورجية ترد كلمة الرحمة؛ فهي الحبل السري بين حياة الأرض وحياة السماء، هي تأكيد إيماني أن لا فناء بعد الموت ولا عدم؛ لذلك نطلبها للحي والميت.
   في زمننا الآتي، نحن بأمسّ الحاجة للرحمة.. الرحمة تجاه ذاتنا لتبقى في مكانتها الرفيعة كما يريدها، تجاه الآخر المختلف عني روحياً وعقائدياً ومذهبياً ومادياً، تجاه البيئة التي خصها الله برحمته الواسعة حباً بنا لنحيا فيها، تجاه الأجيال القادمة؛ لنورثها حمل رسالة الخلاص إلى ملء الزمان.
   قداسة البابا أعلن هذه السنة سنة الرحمة؛ لأنه يريد أن نكون أحرار منعتقين من نير النزوات والغرائز والتملك والحقد، هي دعوة لصحوة الضمير الإنساني، ولقادة العالم ليعود الإنسان إلى بذرته الطيبة لإدراك إلى أي هوة شر يندفع إليها البشر في حروبهم.. فالرحمة قوة إلهية تحتضن الآخر، لا تعرف حسد ولا تحدي، إنما هي فعل رجاء، تفرح بثمار شفقتها.
   الرحمة هي عهد حب بين الإنسان والله، والله يطالبنا بتجديد هذا العهد "أريد رحمة لا ذبيحة".
   وهنا سؤال يدعونا للتأمل: من خلال مسيرتنا الإيمانية، وبما نعيشه اليوم، هل نحن على مستوى النضج الروحي والفكري والفعلي لمفهوم الرحمة كما ورد في الشرعة المسيحية؟
   صلاة..
   يارب، لا تخلٍ قلبي من الرحمة، واجعل جذوتها متقدة دائماً بنور الحب لك، لا الخوف منك، بقوة الإيمان، لا بقوة الاعتياد.. وبرحمتك اعضدني. آمين.