■ تجرى التحريات والتحقيقات كل يوم.. كما يجرى الاتهام والقبض والإفراج أو المحاكمات عند الثبوت.. وهو أمر مقبول وميسور ويسرى على الناس كافة، وتطمئن الناس وتثق فى الجهات التى تمتلك هذه السلطات متى تمت وفقاً للقانون وخاضعة لسيادته، لكن هذه الثقة لا يمكن أن تأتى صدفة أو دون مقدمات، وإنما تتولد عن نتائج الأفعال والممارسة وإتمامها بحيادية.. وبحسن النية.. بعيداً عن الانتقام أو التشفى، أو التسلط.. أو حتى التباهى بالسلطة، هذا الذى يحدث فى واقع الحياة فى مواجهة الجرائم بجميع أنواعها يجد حدة فى اتباع الإجراءات والالتزام بسيادة القانون واستقلال السلطة القضائية.. والالتزام بالسلطات المخولة لها عند التحقيق والحكم، خاصة أن طرق الطعن مكفولة، وضمانات التحقيق واجبة، وقد سطر الدستور الجديد فى بابين كبيرين، الباب «الثالث» عن الحقوق والحريات، و«الرابع» فى سيادة القانون، حتى بلغت مواد هذين البابين وحدهما خمسين مادة بالتمام والكمال من المادة 51 إلى المادة نمرة 100، فضلاً عن النصوص العديدة الأخرى المقررة لكفالة الحقوق والحريات وحق التقاضى، كما جعل الدستور من سيادة القانون أساساً للحكم فى الدولة، وألزم الدولة بتوفير الحماية وكفالة التعويض العادل لمن وقع عليه اعتداء.
■ ولهذا إذا اهتزت هذه المعايير.. واكتشف الناس أن هذه الإجراءات تتم بعيداً عن تلك الضمانات، سواء كانت انتقاماً أو مجاملة مهما كانت الدوافع والأسباب، فإن ترسيخ الثقة مرة أخرى تصعب إعادته، وبهذه المناسبة يجب التأكيد على أن دائرة التجريم والعقاب يجب أن تقف عند حد الأفعال والجرائم، ولا تمتد إلى غيرها من التصرفات، فالبحث عن سلامة العقود والتصرفات حتى ولو كانت قد أخطأت الإجراءات إهمالاً أو قصداً.. سواء بشكل فردى أو حتى اتباعاً لمنطق وسياسة حكومات سابقة أوحالية.. فإن معظم الناس ليس لهم ذنب فيما جرى.. وإذا كان، فإن مساءلتهم ومحاسبتهم لابد أن تكون من طبيعة المعاملة ذاتها فى دائرة التصرفات والعقود والأعمال والاتفاقات، ومن يخطئ فعليه أن يتحمل الخطأ على أم رأسه كما يقول المبدأ الألمانى منذ قديم، وهو ما تعبر عنه أيضاً قواعد المسؤولية فى كل الدنيا فى مجال العقود والمعاملات، وكم من تأشيرات وعقود نراها.. حتى ولو كانت تصويباً، تؤكد أن الحكومة تحترم تعهداتها.. وتلتزم باتفاقاتها.. ولهذا فإن الحكومة ذاتها عليها أن تحترم تلك التعهدات حتى ولو تغيرت.. ولهذا فليس من المقبول أن نفتش فى الدفاتر القديمة.. ونبحث عن التصرفات السابقة بغير حدود للزمن.. ونقلّب فى التعهدات التى مضى عليها الأمد البعيد.. ونوسع من الحديث عن دائرة الفساد ونتخذها سبباً لنشهر فى وجه أصحابها سلاح التجريم والعقاب!!
■ وعندما تختلط هذه الأمور، ويتدخل الاتهام والتحقيق والتجريم والعقاب فى مسائل العقود والتصرفات مهما تعددت صورها، وهى فى الأصل معاملات تخضع للقانون الخاص.. ويحكمها قانون العقد وإرادة طرفيه متى أجراها المسؤول فى حدود اختصاصاته، وفى نطاق السياسة العامة أو النظام السائد.. بل حتى ولو خرج المسؤول عنها، فهى مسؤوليته ومسؤولية من أتى به فى موقع السلطة، وفى كل مرة علينا أن نحترم السلطة التقديرية متى تقررت، وأن نشجع المسؤولين على استخدامها متى كان مرخصاً له بها وفقاً للقوانين واللوائح، ولم يعد مقبولاً أن نرفع سلاح الاتهام والتجريم والعقاب فى وجه هذه التصرفات ونبحث عما فات.. ونفتش عما مضى فى السجلات والدفاتر.. ولا نقف على الأسباب الحقيقية.. أو القواعد والسياسات القائمة حتى ولو كانت خاطئة، فليست كل التصرفات أيها السادة تخضع للتجريم والعقاب.. وليست كل المعاملات أيها السادة يمكن أن يوجه إليها سلاح الاتهام والقبض.
■ لا أقول ذلك دفاعاً عن أحد، أو انحيازاً لتصرف بذاته، لكنها أحداث قد جرت.. واتسعت دائرتها حتى أصبحت شبحاً يهدد الجميع، فمن يضمن حصانة هذه التصرفات التى أبرمتها الدولة بعد عشرات السنين؟! ومن يضمن من المتعاملين مع الدولة عدم المساءلة والنبش فى الماضى حتى ولو كان ذلك أليماً، بل إن الدولة عندما أصدرت تشريعاً يحظر الطعن من الغير والاتجار فى التقاضى ظل تطبيقه عاطلاً أمام المحاكم بعد إحالته إلى المحكمة الدستورية!! رغم أن قواعد العدالة والمسؤولية توجب علينا افتراض أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته.. وأن حسن النية هو الأصل.. وأن الأصل فى الإنسان براءة الذمة وانشغالها عارض، ولهذا عندما أسرفنا فى استخدام سلاح الاتهام والعقاب.. كانت له نتائجه المضادة.. وأدركنا الواقع فى قضايا عديدة كان أشهرها قضية نواب القروض منذ التسعينيات.. وغيرها من قضايا الاقتصاد التى مازالت مدوية، وقد أحدثت الإرباكات حتى بعد صدور الأحكام بالبطلان التى قالت عنها الجمعية العمومية لمجلس الدولة إنه يستحيل تنفيذها.. إذ يتعذر إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل العقد لصدور الأحكام بعد طول الزمن وقد تغيرت معالم ما قبل العقد وأصبح مستحيلاً أن يعود الشىء إلى ما كان عليه!! والأخطر من ذلك كله إذا اختلط الطعن فى التصرفات بسلاح الاتهام والعقاب!!
■ ويجسد خطورة هذا الأمر.. أن التداخل بين التجريم والعقاب.. والتصرفات التى تخضع للبيع والشراء والإيجار والمقايضة.. قد أحدث اضطراباً فى المعاملات وعلى التنمية والاقتصاد والاستثمار، وعندما أدركت الدولة ذلك، أعلنت عن فتح باب التصالح.. ووسعت دائرة انقضاء سبل التحقيقات والدعاوى الجنائية فى جرائم المال والاقتصاد.. وتؤكد دوماً على تشجيع التنمية والاستثمار.. وضمانات وحوافز الاستثمار بلا خوف.. وترسخ للمعاملات والمشروعات وعدم الطعن فى العقود إلا من أطرافها، وإذا كانت الدولة عليها أن تحمى مصالحها، فإن عليها فى ذات الوقت أن تنفذ قوانينها وأن تحترم تعهداتها.. والتزاماتها ووعودها.. وإن عليها أيضاً أن تحترم ما أعلنته.. بالإقلاع عن توجيه سلاح الاتهام.. والتجريم والعقاب.. فى دائرة المعاملات والعقود والمشروعات وإتمام التصالح وانقضاء الدعاوى الجنائية، لأن مخالفة ذلك تؤدى حتماً إلى خطوط متقاطعة.. وتناقض بين ما يقال وما يحدث.. ويتعارض مع حكمة التشريع الجديد الذى أدركته الدولة، فتعود بذلك إلى الخلف.. وهو ما يسىء لسمعة البلاد.. ويفقد الثقة فيما يقال حتى لو تضمن الندم على ما فات!! مهما كان المسؤول!! ومهما كان لسان حال المتحدث باسم البلاد!! انتبهوا أيها السادة، فلم يعد أمامنا الوقت للعودة إلى الوراء.. فالعدو أمامنا.. والبحر من خلفنا وعلينا أن نختار الطريق وأن نمضى إلى التقدم مهما كانت الصعاب والعقبات بعيداً عن سلاح الاتهام والتجريم والعقاب ومهما كانت الدوافع والأسباب!!
نقلا عن المصري اليوم