بملامح شمعية وانفعالات مبالغة مُعدة سلفا لكل حدث دون تفرقة، وابتسامة جِصّية أقرب لقناع فانديتا، يطل باسم يوسف لتقديم حفل جوائز "إيمي آوُردز" بالولايات المتحدة. خالف التوفيق باسم في تقديم ذاته وربما باسم هو الذي أصر على المخالفة، فقضية باسم كأغلب من ينتمون لتياره، تذهب إلى حيث الحصد السريع لعلامات الإعجاب وتكثيف التمركز حول الذات، لخلق تجمهر ما، ثم محاولة إثبات أن هذا التجمهر كان لغرض عظيم، ثم تكتشف أن تحت القبة لا شيء.. أكاذيب كثيرة مررنا بها علمتنا هذا.
ذات الحركات الاستعراضية التي كان يقدمها لجمهوره الأليف بمسرح القاهرة، لم تُجدِ كثيرا في الحفل، فالحضور بدوا كمن يرغبون في تمرير الدقائق الثقيلة.
الوجه الشمعي ربما ساهم في هذا، لا تدرى هل هذه الملامح تدفع المتلقي للابتسام أم للخوف؟! فالماسك بدا أقرب لشبح، مما استدعى تدخلا عاجلا من الإعلامي محمود سعد ليلحقه بمداخلة تليفونية: إيه سر حلاوتك دي في الحفلة يا دكتور باسم؟! ليمحو أثر الإطلالة الشاحبة، ويوجه المتلقي إلى وجهة أخرى.
يظهر باسم بخطاب بائس يروغ من الجد بالهزل تارة، ويهرب من غياب التجاوب مع ثقل الظل والآراء الغائمة، بادعاء الجدية تارة أخرى، يتراقص باسم على حبال الجد والهزل، مدعيا فلسفة أكبر من ذاته وقدراته، فأنتج مسخا بليدا .. موجها حديثه لجمهور غربي في حفل فني، ليس بالضرورة أن تجده معنيا بكل التلميحات المتضاربة والملتبسة التي دمجها باسم يوسف في كلمته، ولم ينتهِ منها بشيء ذي قيمة.. فلا منطق راسخ، ولا وجهة نظر يمكنك تحديدها، سوى أن هناك أناس سيئين في العالم يجب أن نسخر منهم، كي أثبت لكم أنني صاحب فلسفة وفكر.
فكلما ذهبنا لمكان وجب علينا إلقاء اللوم على جهة ما تسبب للمكان مشاكله الخاصة، وهذا الاضطراب الذي ليس بالضرورة أنني أعي مسبباته وألم بجوانبه، ولكنني أعي جيدا كيف أسلط أدوات السخرية تجاهه.. وكأن هناك مكان أو زمان يستطيع البشر العيش فيه دون منغصات، أو أن للمجتمعات جميعها نفس الكتالوج!
ظهور مرتبك للغاية، فلا هو ظهر كمصري قدم قضية وطنه للعالم في محفل عالمي، ولا كلمته المضطربة في مجملها تلائم هذا الموضع مناسبة الحفل، ولا هو استطاع تقديم وجهة نظر سياسية واضحة، هي مزيج ممسوخ يعبر عن لا شيء تقريبا.. بل أنه قدم وطنه كمُضطهِد لبنيه، كما قدم سيناء مثلما تُظهرها قنوات ذات خطاب مُعادٍ كمنطقة إرهاب، في تدعيم لفكرة كونها منطقة اضطرابات معزولة أو قابلة للانفصال.. يصر باسم على الولوج للوطنية من باب السياسي المضطهد، فقدم نفسه باعتباره ملاحق أمنيا، وهو تقديم لم يعد يصح في عصر الميديا والإنترنت.
ويزيد صاحب الفلسفة، في استعذاب المظلومية والاضطهاد التي تتسع مصادرها، فما ردده بخصوص تفتيشه حتى البروستاتا بتلميح جنسي، إشارة لما حدث معه في مطار أمريكي وليس مصريا.
والتلميح الأخير من المسارات المُحببة لباسم.. فهو يميل دوما، لعرض نفسه كشخص لا يُمكنك إهانته أو ابتزازه أو رد إهاناته، فهو يسبقك باستعراض كل الإهانات التي يمكن أن تصمه، فهو خارج نطاق التهديد بما يُخجِل أو يُشين، وهو منطق ساد في بعض الأحياء الشعبية قديما، حيث تلك السيدة التي قد تخلع ملابسها تماما في أية مشاجرة، وتعرض أمام خصمها كل فواحش القول والفعل، حتى لا يجد خصمها معها حيلة أو وسيلة أو اتهام لم تُصب هي به نفسها، فيضطر للصمت، فليس هناك ما هو أكثر ابتذالا لتستخدمه في رد الإهانة معه.
وبعيدا عن هذا، لنرى ملامح خطاب باسم يوسف.
قدم "باسم" نفسه بصفته عربي، ثم روج للغته القومية في الحفل باعتبارها لغة رائعة للبذاءات بحسب وصفه، وعلى الغرب أن يتعلمها فقط ليستمتع بالسباب عبرها، وقدم نفسه بصفته مسلم، ثم وجه العقل المستمع: أن مدة 30 ثانية ترتبط بالزيجة الثالثة لرجل متعدد الزوجات قاطن بالشرق.. تسبق النكتة الفكرة، لأن الفكرة بالأساس مجرد غطاء واهم لتضخيم الذات.
بأداء زائف عبر لغة مغايرة، يزفر باسم أنفاسه: لقد أديت ما عليّ.. مقاتل شجاع يسب داعش فى حماية أمريكا بسباب عربي مبين "يلعن... أبوكم يا ولاد الـ ..."!
استخفاف مبالغ فيه، واستعراض طفولي لا يُمكن تمرير ثقل ظله البالغ، ولسان حاله: فإن عجزت عن جلب ضحكاتكم، فسأخبركم أن آخرين يضحكون على عباراتي بلغتي الأصلية، أنتم فقط لا تفهمون لغتي العربية، سأسب ثم أترككم تبحثون وراء ما قلته.
هذه أيضا مهارة من تلك التي تعجب الجمهور في بلادنا، وكأن أطنان السباب بمواقع الإنترنت وبالشارع لا تكفي، فسأكسر حاجز اللياقة وأطلق سبابا، ليتناقله الأتباع باعتباره كسرا للتابو، حقيقة الحال أن فيلسوف المراهقين يتغاضى عن كون التابوهات تم تحطيمها بالكامل تقريبا، واللعن والسباب والنقد لم يفلت منه أحد أو فكرة هنا.
يسب باسم الإرهابيين بواشنطن، بينما يتجاهل من يحاربهم بالسلاح في القاهرة، ويصر على إظهار الإرهاب هنا كمعركة بين نِدَّين، يترفع عن الانتماء لكليهما.. فالإرهاب هنا في القاهرة من وجهة نظر "باسم" يستدعي إقامة الحوار والاستماع لمنطق الإرهابيين، بينما في الولايات المتحدة يستدعي سبابهم لإظهار كم هم وحشيون.. الإرهاب هنا بين فصيلين متعادلين، وهناك بين دولة راسخة ومجرمين عابرين!
وفي الحالتين يرسخ باسم أقدامه كـ "يويو" سياسي يمكن لمراهق غر استدعاء أقواله في كل المواقف تقريبا، لأنه لم يثبت له موقف يمكنك الارتكان عليه، فأي أمان أكثر من كونك توجه نقدك للجميع، لتثبت دوما أنك لست هنا بهذا المعسكر أو بذاك، وتدعي الانتماء لقيمة هلامية ليست على وجه الأرض بالأساس.. ولكنك لحسن الحظ تنعم بفضل هذا بالأمان في كل مكان.
حالة من الفصام مناسبة تماما لكل من ارتدى ثوبا متسعا يفوق حجمه، ومناسبة أيضا لكل من علق عليه آمالا من السطحيين، تناسب خيالاتهم المراهقة.. إننا أمام حالة متميزة من التسطيح والاستخفاف والأداء المفتعل، شخص روَّج أنه صاحب بطولات بلايكات المراهقين والمشتاقين والراغبين في استخدامه من أصحاب نظرية "خُلقَت الثورات لتُركَب".
سب للإرهاب بالغرب ودعوة للاحتواء بالشرق مرفقة بتقديم المبررات له، الإرهاب ارتعدت فرائصه لسباب باسم، وأتت الأخبار أن داعش تعض أنامل الغيظ .. مقاومة الإرهاب بالسباب تجربة رائدة في مجال مقاومة الإرهاب يجب أن تُدرِّسها وزارة الداخلية لضباطها، كي يموت الإرهابيون من الضحك!
إن تجربة علاج الإرهاب بالابتسامة، وإطالة أمد الإرهاب وعدم القضاء عليه جذريا والترويج للتعايش معه أطول زمان ممكن، اتبعتها الولايات المتحدة في العراق، واتبعها الناتو في ليبيا وحاليا تتبعها جميع الدول العظمى في سوريا.. ومن لم يصدق قولي، فليسأل الدكتور باسم، خبير مقاومة الإرهاب بالإفيه!
يظهر باسم في معية دولة تمتل أكبر قوة عسكرية طوال التاريخ البشري في مجمله، ليطلق إفيهات سياسية يترجمها تابعوه كفكر وتنبؤ عبقري، تدور حول مقاومة الإرهاب بالسخرية، وهو يدرك تماما أنه لولا الحماية الأمنية حول مقر الحفل، لما استطاع الوصول لمسرح الاحتفال أو ضمان أمنه الشخصي، أو فليخبرنا لماذا لا يقيم العالم حفلات مشابهة بليبيا؟!
الإفيه.. ذلك الجندي صاحب الأرواح السبع، الذي كان يعد من وسائل تمكين أساطين الإرهاب من الحكم في مصر وغيرها من دول الربيع، بينما النكات والكوميكات تتوالى مطرا على المتصدين للإرهاب..لم يتمكن باسم من الإفلات من دائرة السطحية في التناول السياسي لثنائية الإرهاب/ الأمن، وكذا لم ينجُ من انتهازية التعامل مع تلك الثنائية طوال السنوات السابقة، حيث نقد مكثف مستمر للظهور الأمني، ووصم تحقيق الأمن بالديكتاتورية، وفي ذات الوقت المطالبة بتحقيق أمنه الشخصى حيثما حل.
يوما في القاهرة، أثناء العمليات الإرهابية المكثفة التي تلت عزل محمد مرسي، كرر باسم إفيها جنسيا شعبيا، موجها لمن يستخدم هذا التعبير للسخرية من عبارة "البلد في حالة حرب" .. الفيلسوف هنا يمد للإرهاب سبيلا، بصد من يدعو لمقاومة الإرهاب، فيسخر منه بنفي فكرة وجود الإرهاب من أساسها، ثم يذهب ويروج للفلسفة الكبرى بالولايات المتحدة، بسب الإرهابيين بالعربية. هنا نرى بوضوح ازدواجية الخطاب أو ارتباكه كنتيجة منطقية لغياب القضية.
يقفز باسم بخطابه فيما يظنه خفة ظل بين الشأن المصري والداخل الأمريكي.. فمن ترويجه لمراقبة كلمته من قبل الجهات الأمنية، إلى اليهود شعب الله المختار، ثم إقران المسلمين وربما الإسلاميين بالأجهزة الأمنية.. كلام يحتمل معانيَ عدة.. هل اكتفى بالحد الأدنى من السطحية؟!
لا.. فالسخرية تستدعي أن تستكمل المسيرة للنهاية، لننتقل إلى المسيحية، حد فاصل بين الاثنين، بها التسامح المعهود.. ثم استدراك لكون "دكتور كارسون" المرشح الجمهوري صاحب التعليقات المضطربة، يُمكن الزج به في العبارة، لوصم الجميع بالتعصب، كي ينظّر لها الحكيم الساخر من أعلى.. المنطق المضطرب يستدعي مزيدا من الخلط المفتعل لتغييم الموقف وسيادة رأي الفيلسوف.
ينتقد باسم الانتخابات الأمريكية التي تحتوي كل سيئ تقريبا بحسب قوله، من السياسة والخيانة والقوة والجشع والجنس، فالمكان الوحيد الذي يُمكن أن ترى فيه كل هذا على التليفزيون هو الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
هذه أمريكا صاحبة الأسوة المثلى، ومحل المقارنة الأبرز بين الداخل المصري وبينها، والمولدة لأكبر مفارقات السخرية الناتجة عن المقارنات، لم تنجُ من تنظيرات ونقد لملء فراغات السطور، الفيلسوف هنا يمتلك رؤية أكثر اتساعا من أمريكا ذاتها.
محصلة الهراء اليوسفي، ألا شيء يعجبني،، ولكنني لا بد أن أتكلم لأنني هنا، وهذا مصدر عيشي.
هكذا ينتقل باسم بِحسٍ يظنه ومريدوه يجمع الفلسفة بالدعابة، إلى حيث التسطيح التام والقفز بين التاريخ والسياسة، وترويج شخصه، ولسان حال من يستمع: دع هذه المستعرِض يُكمل، فلتمر الدقائق.
ولكون الأمر "أكل عيش" قبل أي شيء آخر، فالانتقال إلى الحديث عن محطة فوكس نيوز في حديث باسم، يذهب بنا إلى شغف العرب بالمذيعات الشقراوات "الساخنات" بالمحطة.. فقط.. هكذا كل شيء، فالإفيه المُستهلَك غالب على صاحبه، وإن حرص أن يظهر كصاحب قضية.
القفز يستمر سريعا، فلا فكرة حاضرة ولا قضية راسخة، ولا حتى استعراضا فنيا يلائم مناسبة الحدث، فالحكي تمخض عن حديث شائه متقطع يستدر به الضحك تسولا.. فمن شقراوات فوكس نيوز إلى دبي حيث يخبرنا بمحل إقامته، ينتقل لبرج خليفة، ثم يطلق معلومة ليثبت ثقافته: أنه يمكنك الوصول من قمة البرج للأرض في 30 ثانية.. وهي ذاتها المدة الممنوحة للفائز كي يتحدث خلالها، معتبرا إياها مدة كافية لشخص إسكندنافي وحيد لن يجد من يشكره.. ثم يقفز نحو المسلمين، الذى يحتاج أحدهم لذات المدة 30 ثانية، ليحقق زيجته الثالثة.
يبحث باسم عن تحقيق التوازن بين تقديمه لذاته كعربي وكمسلم، وبين انتقاده الساخر لمسألة فرعية فقهية شديدة الخصوصية متعلقة بتفاصيل دينية، في محفل لا علاقة له بالأمر على الإطلاق.. أية صلة يمكنك أن تربط بها هذا التفكك الظاهر في الخطاب المقدم في ثوب ساخر/ سياسي/ فلسفي بحسب ما تقتضيه الحاجة؟!
مزيد من حشد العبارات تنتج مزيدا من تغييم المقاصد.. هل يمكن اعتبار ما سبق- مع الوضع في الاعتبار خديعة الترجمة والاختلاف الثقافي بين جمهور عربي وغربي - عرضا متسقا بأي حال؟!
إذا كان من واجبات الإعلامي، القيام بمهمة النقل المعلوماتي والخبري، وكون البلاغة من الإبلاغ والقدرة على الإخبار.. فإن انقطاع سبل التبليغ بين المبلِّغ والمخاطَب وكذا تشتت مكونات الخطاب، يصير معها المتحدِّث هزيل الحال متهافت الحديث، غير أهل لمقتضى دوره.
محصلة حديث باسم في حفل جوائز "إيمي": أنني هنا معكم، وأنا حقيقة لا أتبنى أي قضية سوى تقديم ذاتي، لهذا حديثي لم يسفر عن شيء يمكنه الرسوخ في أذهانكم بعد انتهاء الحفل، سوى أنه كان هنا شخص اسمه "باسم" سعى لإضحاككم بعض الشيء، ويمكنكم استدعائي حين الحاجة.
نقلا عن دوت مصر