بقلم : محمد حبيب | الأحد ٢٩ نوفمبر ٢٠١٥ -
٢١:
١٠ ص +02:00 EET
محمد حبيب
كثيرا ما يحلو للبعض أن يتحدثوا بحزن وحسرة عن الماضى، وعادة ما يطلقون عليه الزمن الجميل.. فهل يتكلمون عن ماضيهم هم أم ماضى الآخرين؟ ثم أى فترة يقصدون؛ فترة الطفولة أم الصبا أم الشباب.. إلخ؟ وهل يتحدثون عن الأوضاع السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم الثقافية التى سادت البلاد فى هذه الفترة أو تلك؟ فى هذه الحلقة (٥) من قصة حسن أمين «الرومانسى.. والحكيم.. والمغامر» نحاول أن نلقى ضوءا على فترة مبكرة من حياته، وتحديدا بين نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضى.. تعالوا بنا نتعرف عليها، ثم نحدد بعد ذلك هل كانت بالنسبة له زمنا جميلا، أم غير ذلك، أم كانت خليطا من السعادة والتعاسة، وأيتهما غلبت الأخرى؟ دعونا نطل على تلك الفترة وكيف كانت..
مدينة دمياط هى مسرح أحداث تلك الفترة، ولأنها مدينة ساحلية، فقد كان نصيبها من الأمطار فى فصل الشتاء كبيرا.. بالطبع لم يكن هطول الأمطار ذا وتيرة واحدة، لكنها كانت تهطل فى بعض الأحيان بغزارة شديدة، ربما لمدة ٣ أيام متواصلة.. والحقيقة أنها لم تصل يوما إلى حد الكارثة مثل ما حدث هذه الأيام، سواء فى مصر أو فى بعض البلاد العربية.. ولما كانت مدينة دمياط فى ذلك العهد غير مرصوفة بشكل جيد، فضلا عن أن نظافة الشوارع كانت تشكو سوء الحال، فكانت المدينة تتحول فى فصل الشتاء إلى ما يشبه «الوحلة»، الأمر الذى كان يصعب معه المسير، خاصة فى تلك الأحياء الشعبية التى لم تكن تلقى أى اهتمام يذكر.. وقد نال «حسن» نصيبه الأوفى من هذه «الوحلة» فى الذهاب والإياب، وكان فى الغالب الأعم يعود إلى البيت وقد تلطخت ثيابه بكميات لا بأس بها من الطين، فيلقى على يد والدته ما «طاب» من علقات ساخنة.. يذكر «حسن» تلك الحفر التى كان يغص بها الشارع أمام بيته، والتى كانت تمتلئ ببقايا ماء المطر فى أغلب الأوقات، فيعمد إلى طربوشه الصغير فيحوله إلى ما يشبه «السلطانية»، لينقل به الماء من هذه الحفرة إلى تلك.. ولم يكن سقف البيت الذى يقطنه «حسن» وأسرته مبنيا بمادة خرسانية بحيث تحول بينهم وبين المطر، بل كان عبارة عن أعمدة وألواح خشبية مغطاة بكسر من الحجارة.. وفى الخريف، كان والد «حسن» يسارع بوضع طبقة رقيقة من الأسمنت عليه، حتى لا يتسرب المطر إلى داخل البيت.. برغم ذلك، ما إن تسطع الشمس حتى تتشقق طبقة الأسمنت الرقيقة وتتحول إلى ما يشبه المصفاة. ومع دخول فصل الشتاء تبدأ المعاناة، خاصة أثناء الليل.. إذ عندما تهطل الأمطار بغزارة، تبدأ فى التسرب عبر شقوق الطبقة الأسمنتية إلى أفراد الأسرة وهم نائمون.. يستيقظ «حسن» وإخوته فى فزع على قطرات المطر تتساقط عليهم، فينكمشون فى بعض الجوانب من أسرّتهم، وتقوم الوالدة بالواجب اليومى فتحضر أوانيها وتضعها فى أماكن تساقط المطر، ولم يكن ذلك ليحول دون «طرطشة» الماء عليهم.. ولأن هذه العملية تتكرر بشكل شبه يومى، فقد كان فصل الشتاء بالنسبة للأسرة قمة المعاناة..
لم يكن حال الأسرة من الناحية المادية على ما يرام.. فقد كان حظ حسن وإخوته من الملابس والأحذية متواضعا.. كانت لدى حسن بزة واحدة ببنطال قصير، وهذه يرتديها لعامين وربما لأعوام.. أما الحذاء فلم يكن يستمر معه إلا عاما واحدا.. ولأنه كان دائم اللعب به، فلم يكن الحذاء يصمد معه إلا شهرين على الأكثر.. ومن خلال الفتحات والثقوب تتسلل الأتربة أو الوحل وماء المطر إلى قدميه، لكى تبدأ معاناة من نوع مختلف.
يذكر «حسن» جيدا وهو فى الصف الثانى بمدرسة ابن خلدون الابتدائية، أنه - رغم رومانسيته - كانت لديه مشكلة فى فهم السلم الموسيقى لا يدرى لها سببا، هل من الأستاذ ميشيل، مدرس الموسيقى، أم من شىء آخر متعلق به شخصيا؟!.. لقد كانت حصة الموسيقى ثقيلة على قلبه، وقد قال له الأستاذ «ميشيل» يوما، وقسمات وجهه تعبر عن اشمئزاز واحتقار شديدين: أنا لا أعرف من أى «زريبة» جئت أنت وأمثالك، هكذا..كان الرجل يعزف على الكمان ويردد التلاميذ مع اللحن أنشودة «اسر يا قمر، وأسعد البصر»، وكان «حسن» يسد أذنيه بيديه ويغمض عينيه ويلعن فى سره القمر والبصر! وفى الصف الخامس الابتدائى، ابتلى «حسن» بمدرس رياضيات غاية فى الغلظة والقسوة والفظاظة اسمه جمال، رغم أنه لم يكن جميلا بحال.. فهذا يحدث كثيرا، أن تجد شخصا اسمه «شريف» وهو لص، أو اسمه «صادق» وهو كاذب، أو اسمه «وسيم» وهو دميم، وهكذا.. فقد ابتدع الرجل ما أطلق عليه «حساب عقلى»، يفتتح به الحصة كل يوم ما عدا الأحد الذى كان يخصصه للرسم البيانى.. ما إن يدخل المدرس ويكتب هذه العبارة على السبورة حتى تصاب الأكثرية بالفزع.. يلقى الرجل على التلاميذ شفاهة مسألة حسابية ويطلب منهم الحل، ثم يعطيهم دقيقة واحدة فقط للإجابة.. بعد انتهاء الدقيقة يصيح فيهم بأعلى صوته: ضع القلم.. ويا ويل من ضُبط وقلمه فى يده بعد صدور هذا الأمر.. يمر المدرس على التلاميذ واحدا تلو الآخر، ليصحح الإجابات.. التلميذ الذى يجيب إجابة صحيحة يظل جالسا، أما التلميذ الذى يخطئ، فيأمره بالوقوف.. بالطبع كان عدد الذين يقفون عادة أكبر بكثير من الذين يظلون جالسين.. ولسوء حظ حسن كان دائماً ضمن الواقفين.. بعد ذلك يمر المدرس ومعه عصاه اللعينة على هؤلاء وقد استعدوا بمد أيديهم إليه فيهوى بالعصا عليها بمنتهى الشدة والقسوة.. وفى فصل الشتاء حيث البرد القارس، خاصة فى الصباح، يكون الإحساس بالضرب أكثر ألما ووجعا، مع ذلك ما كان الرجل ليرحم أحدا.. وقد لاحظ حسن أن أحد أصدقائه ويدعى «محمد» كان دائما يجيب الإجابة الصحيحة، ومن ثم لم يعاقب أبدا.. فقال فى نفسه، لماذا لا أجلس بجوار هذا الصديق و«أغش» منه الإجابة، وبالتالى أفلت من هذا العقاب الدائم؟ وافق «محمد» على أن يجلس «حسن» بجواره، دون أن يعرف نيته.. كان «حسن» واثقا أنه بهذا التصرف قد وضع حدا لعذابه.. وفى اليوم التالى دخل المدرس الفصل، وكالعادة ألقى على التلاميذ مسألة «الحساب العقلى»، وأمهلهم الدقيقة المعتادة، ثم صاح بعدها: ضع القلم.. أجاب «حسن» على المسألة، لكنه نظر من طرف خفى إلى ورقة صديقه «محمد» فوجد إجابته مختلفة.. لم يشك لحظة فى أن هذه هى الإجابة الصحيحة، وعلى الفور قام بشطب إجابته ونقل إجابة صديقه.. مر المدرس، وعندما وصل إليهما لتصحيح الإجابتين، بدأ بالصديق فوجد إجابته خطأ.. أسقط فى يد «حسن»، لم يستطع أن يفعل شيئا.. لم تكن هناك فرصة حتى للندم.. كان مذهولا، فقد كانت إجابته فى هذه المرة الوحيدة صحيحة، لكنه مع ذلك سوف يعاقب.. لقد ظل «حسن» لفترة غير قصيرة من حياته، يحمل فى قلبه مشاعر سلبية تجاه دمياط، وفصل الشتاء، والموسيقى، والحساب العقلى.. فهل كان الزمن الجميل، جميلا حقا؟.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع