بقلم: يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (563)
نشرت وطني الأسبوع الماضي تغطية موسعة حول الآثار المدمرة التي حاقت بالقري التي غرقت في مياه السيول التي سببتها الأمطار الغزيرة في محافظتي الإسكندرية والبحيرة. جاءت التغطية بعنوان مصر تغرق في شبر مية!!… لكن الحقيقة التي نعرفها جميعا وتابعناها وعايشناها تقول إن مصر لم تغرق في شبر مية إنما غرقت في ما يتجاوز المتر ونصف المتر من المية, وحتي يومنا هذا ماتزال هناك أحياء وقري وزراعات مدمرة وهالكة من جراء تراكم المياه وما أفسدته, ومازلنا نقرأ عن تدخل الأجهزة الرسمية لغوث المواطنين المضارين وتعويضهم.
لكن المتر ونصف المتر من المية ليس الكارثة الوحيدة التي غرقت فيها مصر, فهناك من الكوارث الأكثر فداحة كشفت عنها تلك المأساة: كارثة تصريحات وتبريرات المسئولين الذين مازالوا يصرون علي الاستخفاف بعقولنا, وكارثة الانهيار البشع في تصميم وتنفيذ شبكات المرافق ورعايتها وصيانتها, علاوة علي المسكوت عنه فيما يخص الأحياء والمدن الجديدة التي نتباهي بتخطيطها وتنفيذها وتعميرها وهي تفتقر إلي شبكات صرف مياه الأمطار وتقف تنتظر دورها للغرق في شبر مية!!.
من يتابع تصريحات وتبريرات المسئولين عن الواقع المتردي لشبكات صرف مياه الأمطار في الإسكندرية سيصاب بالغثيان, فهم يسوقون الأسباب وراء الغرق واحدا تلو الآخر بقدر غريب من الجرأة واللامبالاة يفضح انهيار الإدارة.. رئيس شركة الصرف الصحي بالإسكندرية يقول: المحافظة بها 57 مصبا لمياه الأمطار علي الكورنيش وتبين بالمعاينة الميدانية أن 11 مصبا منها تم إغلاقه خلال أعمال توسعة الكورنيش منذ 20 عاما (!!!!) غير البعض الآخر تم سده بالكتل الخرسانية التي وضعت للحماية من الأمواج (!!!!) بينما هناك مصبات أغلقتها بعض المنشآت السياحية والأندية المقامة علي الكورنيش (!!!!). والحقيقة لست أدري كيف يعترف هذا المسئول بتلك المخالفات التي ترقي لمستوي الجرائم والتي ترجع كما يقول إلي نحو 20 عاما وكيف صمت عليها المرفق الذي يترأسه؟!!… لكنه عاد وأتحفنا بتصريح أثلج قلوبنا وكأنه اكتشاف علمي جديد مذهل حيث قال إن وزارة الإسكان تستعد حاليا لإنشاء شبكة صرف كبري لمياه الأمطار يتم تنفيذها كأحد الحلول المطروحة بعيدة المدي (!!!!)… وأرجو ألا يعتبر أحد أن هذا المشروع الطموح وغير المسبوق ينافس مشروع المحطة النووية في الضبعة!!.
أما عن الواقع المؤسف الذي وصلت إليه شبكات صرف مياه الأمطار -وأنا هنا أتحدث عن الطرق القليلة جدا جدا التي تم تزويدها بتلك الشبكات في أيام الزمن الجميل… أيام كانت هناك مواصفات قياسية تحترم وإدارات واعية تخطط وتنفذ وتصون وتراقب, وهو زمن ولي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان… تلك الشبكات يقولون لنا إنها تضررت بإغلاق وسد مصباتها, لكن هذا ليس الجرم الوحيد فهم يتحدثون أيضا وبكل جرأة ولا مبالاة عن انسداد بالوعاتها المنتشرة بجوار الأرصفة بالأتربة والمخلفات بالإضافة إلي اكتشافهم (!!) أن بعضها مسدودة بكتل خرسانية (!!)… يقولون ذلك وهم لا يدرون مقدار ما يكشفونه عن التخاذل والتقصير في مسئوليات التفتيش والرقابة والصيانة من جانبهم لرصد سائر المخالفات ومنعها وضمان استمرار قدرة تلك الشبكات والبالوعات علي أداء مهامها علي أكمل وجه.
لكن المسكوت عنه والذي لم يقله أحد في هذا الخصوص أن هناك جريمة أخري ترتكب في صمت وبشكل دؤوب علي مر السنوات والعقود المنصرمة… تتم تحت سمعنا وبصرنا جميعا… يبتلعها من لا يعرف ويغض البصر عنها من يعرف… إنها جريمة إضافة طبقات تلو طبقات من أسفلت الطرق فوق بعضها البعض بهدف الصيانة أو التجديد -أو احتفاء بزيارة رئيس الجمهورية!!!- دون الالتزام بالمواصفات التي تقتضي إزالة طبقة الأسفلت القديمة تماما والوصول إلي طبقة الأساس أسفلها قبل إحلال طبقة الأسفلت الجديدة… ذلك للحفاظ علي السمك القياسي لطبقة الأسفلت علاوة علي الحفاظ علي مناسيب الطريق وعدم طمس أو تغطية ما به من بالوعات وغرف تفتيش لكافة شبكات المرافق… وكلنا نعرف ظاهرة الانخفاض غير المبرر لأغطية شبكات الصرف الصحي التي ترتطم بها السيارات المارة نتيجة ذلك, لكننا لا نتنبه إلي دفن بالوعات صرف مياه الأمطار بجوار الأرصفة, هذا فضلا عن أن طمس تلك البالوعات إن لم يحدث نتيجة تراكم طبقات الأسفلت يحدث نتيجة تبديل وتحديث بردورات الأرصفة والتغييرات التي تطرأ علي تبليط الأرصفة, أي أن أعمال المرافق الفنية وشبكات البنية التحتية يجري بجهل دؤوب التضحية بها في مقابل الشكل المظهري السطحي لشبكات الطرق!!.
هذا عن الأماكن القليلة جدا جدا التي كانت مزودة بشبكات لصرف مياه الأمطار, وذلك يصل بنا إلي كارثة مدوية تخص قدرا هائلا من التخطيط والتعمير والأحياء والمدن الجديدة التي دأبنا علي تنفيذها خلال ما يربو علي نصف قرن دون إمدادها بتلك الشبكات أصلا, وهي ليست بالضرورة في محافظات تندر بها الأمطار إنما ينطبق ذلك علي سائر الأقاليم المعرضة ليس للأمطار فقط إنما للسيول الجارفة أيضا… ومن لا يعرف ذلك فليذهب ليتفقد الامتداد العمراني الرهيب الذي حدث في الإسكندرية قبلي شريط السكة الحديد ليكتشف خلوه من شبكات صرف مياه الأمطار, وغياب أية بالوعات لتلك الشبكات بجوار الأرصفة -هذا إذا كانت هناك أرصفة أصلا!!!- ونفس هذا الواقع المريض الكارثي ينسحب علي سائر مدننا التي نطلق عليها المدن الجديدة سواء ما تم تنفيذه منها حول العاصمة المحروسة القاهرة أو علي الطرق الرئيسية الخارجة منها مثل طريق الإسماعيلية وطريق السويس وغيرهما… ولا عجب أو غرابة أننا سمعنا عن غرق أماكن كثيرة في مدينة 6أكتوبر هذا الشهر ولم يفطن أحد إلي الخلل الرهيب في البنية التحتية وراء ذلك… وبنفس الجرأة التي تحدث بها مسئولو الصرف في الإسكندرية قد نسمع من مسئولي المرافق بالقاهرة والمدن الجديدة تصريحا يقول: هي الدنيا بتمطر هنا؟… نعمل شبكات صرف أمطار ليه؟!!… يقولون ذلك وهم يقفون يشرفون علي قوافل سيارات شفط مياه الأمطار التي بعثت بها القوات المسلحة لنزح البحيرات التي غطت الشوارع!!… إن مصر لم تغرق في شبر مية… مصر غارقة في هاوية فساد الإدارة!!.