فى مقال الأسبوع الماضى عرضت ثلاث خصائص لأشكال وصور الفساد وهنا أكمل، حول مخاطره وسبل مواجهته:
4 ـ للفساد عواقب وخيمة، منها: تآكل الرأسمال البشرى، وتداعى إمكانيات المجتمع وقدرته على الفعل الإيجابى، وإفساد ثقافة المؤسسات، وانتهاك الأمن الإنسانى، وسرقة الدولة بعد تضمين المسروق والمنهوب فى التكاليف، وبالتالى تراجع قدرتها على التنمية وتقديم الخدمات لمواطنيها.
5 ـ فى ظل التفاوت الطبقى والتهميش الاجتماعى ووجود خلل فى السوق يوازيه انحدار فى القيم الإنسانية وتدهور فى الأخلاق، وفقدان الإحساس بالمصلحة العامة، أو الشعور بالأمان حيال المستقبل، حيث ما يمكن أن نسميه «تدوير الفساد وتعويمه» حيث يسعى كل فرد إلى تحصيل ما يسد رمقه وذويه بأى طريقة، وفى صورة مفرطة فى الأنانية، ودون أى اهتمام بما يفرضه القانون من واجبات، وما يجرمه من تصرفات، ودون توقف أمام أى سلبيات تنجم عن الرشاوى والاختلاسات، والتربح من المناصب والمواقع الإدارية العامة، حتى لو كانت من الدرجات البيروقراطية الدنيا. ويتم هذا فى حالة من التبجح واللامبالاة، فى ظل الاقتناع العام بأن التعفف يعنى الوقوع فى فخ الهلاك، وقت أن يعجز الناس عن ملء بطونهم.
وبذا بدأ كثيرون يخرجون على المفهوم التقليدى للفساد الذى تبنته «منظمة الشفافية الدولية» والذى اقتصر على الفساد فى معاملات الأعمال، وكذلك التعريف الأوسع الذى يعرف الفساد بأنه «اتخاذ القرارات فى الشأن العام، فيما يتصل بتخصيص الموارد الاقتصادية وتوزيع العائد الاقتصادى، وفق اعتبارات المصلحة الخاصة، وليس وفق الصالح العام، أو بالتضاد معه»، ليصبح الفساد هو «الاكتساب غير المشروع- أو من دون وجه حق- لعنصرى القوة فى المجتمع، السلطة السياسية والثروة»، حسب تعريف د. نادر فرجانى.
وحين يصل الفرد إلى المستوى الذى تتساوى عنده كل الاحتمالات، مع الشعور العام بوصول الفساد إلى النخاع، تتصاعد المخاطرة فى شقها الردىء والإجرامى عند أعداد غفيرة، فيقدمون على تحصيل الأرزاق عبر وسائل غير مشروعة، بأعصاب باردة، وضمائر ميتة، ويسعون إلى انتزاع أى موقع فى الزحام، بأى طريقة، خوفا من أن تدهسهم أقدام الصاعدين سريعا إلى قمة المجتمع، ممن يتحكمون فى الجزء الأكبر من حركة السوق، ويرسمون معالم الاقتصاد الوطنى فوق تلال هاوية.
وهذا السلوك لا يقتصر على المنخرطين فى صفوف الجهاز البيروقراطى، بل يمتد ليطوق حتى أصحاب المهن الحرة، بمختلف ألوانها، والأعمال الهامشية والموسمية، فى ظل حركة عشوائية غير صحية وغير صحيحة لإحداث أى قدر من التوازن أو الترميم الطبقى، حتى لو كان طفيفا.
وهنا يصطف أفراد المجتمع، كل حسب موقعه بالسلم البيروقراطى أو نوع المهنة التى يحترفها، فى طابور طويل، ليضع كل فرد يده فى جيب من يقف أمامه، ويترك جيبه لمن يليه، فى استمراء للسرقة الجماعية.
بالطبع هناك استثناءات، لكن المبتعدين عن التردى فى السرقة العامة، لتعفف أو بعض ضمير ووطنية فى ظل خوف من الله سبحانه وتعالى أو تهيب للقانون، قد يتقلصون بمرور الأيام، مع استمرار فشل السياسات الاقتصادية، وارتخاء الدولة، وتآكل قدراتها على سد احتياجات الشعب، وانكسار مكانة القانون بعدم تنفيذ الأحكام والنفاذ من الثغرات التى تعيبه.
ويفتح هذا الوضع الباب على مصراعيه أمام تساؤلات لا تنتهى عن الهوة الواسعة بين النصوص القانونية والدينية والواقع الذى ينحيها جانبا، وبقسوة، ليفرض شرائعه الخاصة، المشبعة بالفساد، والقادرة على الإفساد.
لهذا فإن محاربة الفساد لا يجب أن تتوقف عند الطرق التقليدية التى امتلك الفاسدون قدرات عجيبة فى التحايل عليها وتفريغها من مضمونها، وتحديها السافر بالتصرف وكأنها غير موجودة، أو الإفلات منها إن اكتشف فسادهم وقدموا إلى المحاكمة.
وحال وصول هذا الفساد إلى مستوى واسع وعميق فى الدولة والمجتمع، تبرر لمن يصفونه بأنه قد وصل إلى «الرقاب»، يكون على من يكافحونه مسؤولية أشد فى البحث عن طرق مبتكرة، يكون بوسعها أن تتصدى له بشكل حقيقى وليس مظهريا، كما فى كثير من الحالات التى يتحدث فيها مسؤولون عن جهود تبذلها مؤسسات مكافحة الفساد، لكن المواطن العادى يشعر أن الأمور تقف عند حالها القديم، إن لم تكن تتدهور.
إن الفاسد يستجمع كل قدرته على التخيل، وهو يخطط لسلب المال العام، أو التهرب من الضرائب، أو الاتجار فى سلع منتهية الصلاحية، أو تشييد مبان غير مطابقة للمواصفات المطلوبة... إلخ، ومن ثم فإن من يواجهه يجب أن يتمتع بقدرة أكبر على التخيل فى الاتجاه المضاد.
وهذا الخيال يبدأ بالقوانين التى تقى المؤسسات والهيئات والأفراد من الوقوع فى الفساد، فالقانون يجب أن يكون سابقا وليس لاحقا على المسائل التى يعالجها، وهى السبق ليس فى الزمن فحسب، بل فى تخيل المشرع لحالات عدة من الخروج على القانون، أو السلوكيات التى تظهر فى المستقبل، والثغرات التى يمكن أن تنشأ من عدم دقة فى الصياغة.
وهنا يقول د. محمد رؤوف حامد إن مواجهة الفساد هى عملية إدارية سياسية، وحزمة من العمليات الفكرية والعملية والفنية، ودون إدراك هذا الأبعاد، وتقسيم هذه المواجهة وفق خطط قصيرة المدى، وبعيدة المدى، فمن الصعب أن تنجح، ويتطلب الأمر كذلك أن تكون المواجهة واسعة وعميقة، بل حادة، فالتدرج فى محاربة الفساد من أسفل إلى أعلى، سيعطى من دون شك فرصة للفاسدين الكبار كى يهربوا. ولهذا يجب قطع الطريق على مجموعات وتوازنات الفساد، بحصرها وتحديد أفرادها بقدر الإمكان، وكشف خطوط وخلفيات التواصل بينهم.
وهناك من يفضل أن تبدأ محاربة الفساد من أعلى، اتكاء على الحكمة المتداولة التى تؤمن بأن «السمكة تفسد من رأسها»، وهنا يقول أمادو تومانى تورى، الجنرال الذى أطاح برئيس مالى موسى تراورى من الحكم عام 1991، وسلم السلطة عام 1992 إلى حكومة مدنية منتخبة: «عند تنظيف المنزل، على المرء أن يبدأ من الطوابق العليا، وأن يرمى بالنفايات إلى الطابق الأرضى، هكذا تماما تكون الحرب على الفساد، بالبدء من أعلى مستوى فى الدولة».
إن مكافحى الفساد يجب أن يطلقوا خيالهم كى يصلوا إلى طرق ناجعة بغية تحقيق هذه الغاية، وأولها أن يجعلوا الفساد عملية تنطوى على أقصى مخاطرة وأدنى عائد، وأن يفكوا الارتباط بين الفساد وبين العمليات الأخرى التى يعتمد عليها، فهو أقرب إلى النبات الطفيلى الذى لابد من أن يلتصق بنبات آخر يقتات على زاده، وأن يقوموا بتجريس المفسدين، بما يردع غيرهم الآن وفى المستقبل، وعدم التهاون مع أى فساد صغير لو كان يبلغ حدا كبيرا من الضآلة، ولعل المثل الشعبى المتداول الذى يقول: «من يسرق بيضة يسرق جملا» أشمل وقرب تعبير إلى الذهن بهذا الخصوص. كما يجب ألا تترك مهمة مكافحة الفساد للهيئات الحكومية فقط، وفى الوقت نفسه لا يجب أن تقتصر هذه المهمة على القطاعين العام والحكومى، بل تمتد إلى القطاع الخاص أيضا.
لكن كل ما سبق يخص الطرق «الدفاعية» التى تبدأ بعد وقوع الفساد، إلا أن الأفضل هو «المبادرة» التى تعنى وجود سياسات عامة وتشريعات تشكل جداراً عازلاً أمام الفساد، بدءاً من التعليم الجيد، وتوافر الحريات العامة، وإزالة الاحتكارات، ومنع هيمنة طبقة أو شريحة أو فئة أو أتباع مهنة على الوظائف العليا فى الدولة، والمراجعة الدائمة لنظام الرواتب والأجور والحوافز، وكذلك نظام الضرائب بما يجعلها تحتفظ بعدالة دائمة، والأهم هو وجود قضاء مستقل.
نقلا عن المصري اليوم